هو أب الموسيقى في لبنان ومؤسّس الأوركسترا الأولى، وأحد أعمدة مؤلفي الموسيقى الكبار في العالم العربي، ورائد من رواد النهضة الموسيقية في لبنان والعالم العربي.

لديه أسلوب متميز في الكتابة، وهو واحد من "عصبة الخمسة"، التي ضمت إليه عاصي ومنصور الرحباني، توفيق سكر وزكي ناصيف (حلّ محله عبد الغني شعبان في ما بعد)، هذه العصبة التي جدّدت المدرسة اللبنانية في الموسيقى العربية.

كان توفيق الباشا رمزاً من رموز الفن، تخرّج على يديه العديد من الفنانين والموسيقيين، وطبع ببصمته الأغنية اللبنانية والعربية، وساهم في نهضتها، وتحت إشرافه سجّلت الإذاعة اللبنانية أجمل الأغاني، كما له ألحان عديدة للمسلسلات الإذاعية لصالح إذاعة BBC، وللمسلسلات التلفزيونية لصالح تلفزيون لبنان، ولشركات الأسطوانات.

هو صاحب الفضل الكبير على المعاهد الموسيقية، والفرق السيمفونية، والمواهب الغنائية في لبنان، درّب سعاد محمد ولحن لـ نور الهدى ونجاح سلام، وعدد كبير من الفنانين والفنانات.

نشأته

ولد توفيق الباشا في بيروت في عام 1924، كان ولعه بالموسيقى متجلياً منذ طفولته، وساهم خاله الموسيقي خليل مكنية في دعمه من خلال توجيه الباشا وارشاده وتشجيعه بعد قيامه بإقناع أهله بتوجه ابنهم نحو الموسيقي.

أدرك حقيقة موهبته الموسيقية منذ مطلع شبابه، وعرف في قرارة نفسه أنه سيكون أكثر من مجرد عازف هاوٍ على آلة "الفيولونسيل" أو "التشيلو". فقد أيقن أنه سيكون مؤلفاً موسيقياً، لذا سعى وراء حلمه والتحق بالمعهد الموسيقي في الجامعة الأميركية في بيروت بين العامين 1941 و1944، ليعمّق دراسته الموسيقية على يد الأستاذ الروسي ألكسي كوغل، كما كان للفرنسي برتران روبيار فضل كبير في تثقيفه موسيقياً وفي تلقينه دروساً في التأليف الموسيقي، شأنه شأن الأخوين رحباني اللذين تلقيا الدروس عينها على يد روبيار. وكان قد سبقهم الى ذلك زكي ناصيف، حتى بداية الخمسينات من القرن الماضي. وتخصص في الموسيقى العربية بجهده الذاتي، وتعلم فن الموشحات والغناء الكلاسيكي.

مهام ومناصب

تولى توفيق الباشا إدارة القسم الموسيقي في إذاعة القدس من رام الله من العام 1949 حتى العام 1951 ليتفرّغ للتأليف الغنائي والموسيقي وقيادة الأوركسترا في فرقة باليه الشرق الأوسط». ومعها قدم أعماله على أهم المسارح في العديد من الدول العربية منها، أوبرا القاهرة، وبغداد والقدس ودمشق، وصولاً الى بومباي وكلكوتا ونيودلهي في الهند.

عاد في العام 1953 الى الإذاعة في محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية إلى حين توقفها عن البث في العام 1956.

عصبة الخمسة تجتمع من جديد

بعدما أقفلت إذاعة الشرق الأدنى أبوابها في العاصمة اللبنانية بيروت سنة 1956، أسس رجل الأعمال اللبناني "بديع بولص" الشركة اللبنانية للتسجيلات الفنية، والتي عرفت فيما بعد "ستوديو بعلبك" واجتمع من جديد نفس الفريق الذي كان في اذاعة الشرق الأدنى وبدأ توفيق الباشا من جديد نشاطه الفني وانضم الى الخماسي المؤلف من عاصي ومنصور الرحباني، توفيق سكر وزكي ناصيف، فيروز، وصبري الشريف. وأفسح في المجال أمام مؤلفين موسيقيين آخرين ليقدموا إبداعهم، منهم بوغوص حلاليان، والأب يوسف الخوري، كما شجع الياس رحباني على الدخول في التجربة الأوركسترالية.

وكان توفيق الباشا من مؤسسي مهرجانات بعلبك الدولية، وقدمت الفرقة ليالي لبنانية، وقائداً للأوركسترا في الأعوام 1957 و1959 و1964 و1974، كما أسهم في العام 1960 في تأسيس فرقة الأنوار العالمية» مع بعض زملائه وبمعاونة الصحفي اللبناني سعيد فريحة التي قدمت حفلاتها في بيروت، وعلى مسرح دار الأوبرا المصرية في القاهرة وأخرى في الإسكندرية، هذا إلى جانب بعض العواصم الأوروبية: باريس، فيينا، فيسبادن، وفرانكفورت والعديد من الدول العربية، إضافة إلى أنه علّم نظم التدريس في مادة الموشحات في المعهد الموسيقي الوطني.

ترأس اللجنة الوطنية للموسيقى التابعة لليونسكو في العام 1986حتى 2000، بعدما ترأس جمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى في لبنان التي كان حتى وفاته رئيسها الفخري.

عمله في الإذاعة اللبنانية

وجد توفيق الباشا في الإذاعة الحرية في الإختيار والكتابة، فأعطى عمله كل امكانياته الفنية والاذاعية التي توافرت لديه. وخلال هذه الفترة ألف غنائية "المولد" وسجلها مع كورال ضخم .

أدخل الموسيقى إلى كل البرامج في الإذاعة، بما فيها الإخبارية، فلحّن عشرات الأغاني ومئات القصائد للبرامج الغنائية الإذاعية، وأعطى اهتماماً خاصاً للموشحات الأندلسية وأشبعها درساً، حتى أصبح مرجعاً أساسياً فيها.وفي عام 1961، أسند إلى توفيق الباشا رئاسة دائرة الموسيقى في إذاعة لبنان، واستمر يعمل رئيسا لها حتى عام 1984، وأثمرت جهوده في الإرتقاء بالأغنية اللبنانية شكلاً ومضموناً، سواءً لجهة الكلمة أو اللحن أو الأداء.

تمكن من تجهيز استوديو الإذاعة بآلات موسيقية متطورة والتعاقد مع مجموعة من العازفين الذين يجيدون قراءة النوتة الموسيقية وكتابتها، للعزف على هذه الآلات، الأمر الذي زوّد الإذاعة بأفضل فرقة للموسيقى الشرقية في لبنان على الاطلاق، وقد استعين بهذه الفرقة في جميع المهرجانات الفولكلورية والحفلات الموسيقية الكبرى في شتى بقاع الوطن. كما ضاعف عدد أفراد الكورال العاملين في الإذاعة، وتعاقد مع مجموعة من الموسيقيين والملحنين المشهود لهم بالعلم والخبرة للعمل كمخرجين موسيقيين والاشراف على تنفيذ الأعمال الموسيقية والغنائية.

وكان يتابع عملية التنفيذ سواء بحضوره شخصياً في الاستديو، أو من خلال جهاز الاستماع الذي جهزت به مكاتب جميع المسؤولين في الإذاعة.

إستطاع توفيق الباشا، بقيادته دائرة الموسيقى وبمشاركة مجموعة من الموسيقيين اللبنانيين الذين استقطبهم حوله (أمثال عبدالغني شعبان، ميشال خياط، حليم الرومي، خالد أبو النصر، أنطوان زابيطا، إلياس الرحباني، يعقوب طاطيوس، والذين انضمّ اليهم في ما بعد إحسان المنذر وسليم سحاب)، أن يحقق للإذاعة السمعة اللائقة في العالم العربي. وقدم خلال هذه الفترة طاقاته الفنية والابداعية وكان صاحب الفضل على الكثير من الفنانين، منهم وداد، زكية حمدان، نازك، سعاد الهاشم، نهى الهاشم، نصري شمس الدين، سعاد محمد، محمد غازي، نجاح سلام، محمد زين، نور الهدى وغيرهم.. وعرفت هذه الفترة بالفترة الذهبية للأغنية اللبنانية.

تمّيزه كمؤلف موسيقي

ترك توفيق الباشا آثاره في الموسيقى السمفونية والقصائد والموشحات والأغاني والإنشاديات، والأوبرا والأغاني الشعبية وموسيقى الباليه. ولحن أكثر من أربعمئة أغنية لفنانين وفنانات كبار من لبنان والعالم العربي، وكان توفيق الباشا أوّل من أدخل الهارموني والأوركسترا إلى القصيدة العربية، بأصوات جديدة في "وست هول" في الجامعة الأميركية عام 1947، وعمد إلى تشريح الموشح وإعادة بنائه كي يأتي متحرّراً، تنوعت أشكال الابداع من أعمال موسيقية خالصة الى أغاني بشتى ألوانها. وتميل مؤلفات توفيق الباشا السيمفونية والأوركسترالية الى الأجواء العربية، مع الاستفادة بالتقنية الغربية، عُزفت أعماله في بلجيكا مع موزارت وباخ.

أعماله

أعدّ بداية مجموعة من الألحان الشعبية والفولكلورية اللبنانية العربية: «عمي يا بياع الورد»، «قهوة بلدي»، «يا مايلة ع الغصون"، "زوروني"، "طلعت يا محلى نورها»، و"يا ام العباية" وغيرها، ثم كتب أعمالاً موسيقية أصدرها في أسطوانة (Fantaisie Oriental)، وهي مجموعة جمل موسيقية من فاصل "اسقِ العطاش"، تلعب فيها كمان عبود عبد العادل دور المطرب في العمل الأساسي، وإتبعها بثانية عنوانها (Andalouse suites)، بثالثة عنوانها (Le Tapis Magique)، وهي مستوحاة من "ألف ليلة وليلة".

منذ العام 1962 لحّن أكثر من ألفي قصيدة من تراث الأدب العربي، منذ العصر الجاهلي حتى العصر العباسي، ومنها "ليالي شهرزاد" و"ليالي الأصفهاني"، في كتاب "الأغاني وبدائع النغم".

ألّف العديد من السمفونيات منها "الليل" المستوحاة من قصائد الشاعر سعيد عقل "فوق البنفسجية" "اللامقامية". عبّر عن رفضه للاجتياح الإسرائيلي للبنان في سيمفونية "بيروت 82"، كما ألّف الموسيقى التصويرية لخمسة أفلام طويلة و"الانشادية النبوية" من شعر أحمد شوقي.

أصدر في العام 1998 مجموعة مختارة من مؤلفاته: منها المختار من الموشحات الأندلسية (تحقيق وتأليف)، الإيقاع في الموسيقى العربية (تحقيق ومقارنة)، الكمان والارباع الصوتية (21 دراسة عالية)

من ألحانه :أدركت يا قلبي ما بتغيه من حلم (سعيد الهندي)، حديث قبلة (علي محمود طه)، ليه يضيع عهد الحنان (موفق شيخ الأرض)، يا ليالي العمر (احمد يوسف حمود)، يا مولعاً برسائلي (فؤاد شعبان)،

وآخر أعمال توفيق الباشا انشادية "عظماء الدنيا وعظماء الآخرة" التي كتبها الدكتور مصطفى محمود عن تراث لمحي الدين بن عربي وقدمها أوركسترا القاهرة السيمفوني عام 1996 بقيادة د. مصطفى ناجي.

عام 2000، احتفى الباشا بيوبيله الذهبي، حين أصدر أعماله الكاملة في 17 أسطوانة.

الإنشاد الديني المشرقي

كان توفيق الباشا من أوائل الذين قدموا الإنشاد الديني المشرقي في لبنان، وأحد الرواد المؤسسين لنهضة الموسيقى العربية واللبنانية عبر معادلة موسيقية مشرقية الروح والطابع والهوية، لكن بأدوات وآليات غربية تمنحها أبعاداً إنسانية شاملة، تتفق مع ماهية الفن الموسيقي، الذي هو في الأصل عابر للهويات والجنسيات.

عمله الكبير "الإنشادية النبوية" عام 1995، التي تروي السيرة المحمدية من خلال مختارات لأبيات قليلة متناثرة من قصيدتي شوقي "وُلد الهدى" و"نهج البردى"، وإنشادية "منهل الإيمان"، التي سجّلها عام 1964 مع الأوركسترا اللبنانية بمشاركة محمد غازي والجوقة، وهي من نظْم مصطفى محمود وتبلغ مدّتها حوالي العشرين دقيقة. أول ما يلفت الانتباه في هذا العمل الديني الراقي، هو أنّه بلا صبغة طائفية محدّدة، بل هي مغناة ذات منحى إنساني شامل حاول فيها الباشا أن يعبّر عن الإيمان كقيمة مطلقة تتجاوز الأديان، بل تتجاوز الإنسان إلى سائر الكائنات.

حياته الخاصة

تزوّج توفيق الباشا من الفنانة وداد، ورزق منها بـ الموسيقي عبد الرحمن الباشا وريما الباشا ورندا الباشا، وكانت الفنانة الراحلة تناقش أدنى التفاصيل معه، ثم إنفصل عنها لاحقاً وتزوج من الفنانة نهى هاشم، شقيقة الفنانة سعاد هاشم، التي عُرفت في ستينيات القرن الماضي.

جوائز وأوسمة

نال توفيق الباشا العديد من الأوسمة، من مصر (وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى) وثلاثة أوسمة من جمعية "باريس ساسيم"، ووسام الاستحقاق اللبناني من رتبة فارس في العام 1997، بالاضافة الى ميدالية "باريس" و"ميدالية الاستحقاق اللبناني الفخرية" ودروع تقديرية من مؤسسات ودول عربية، وآخرها كان في العام 2002 الجائزة التقديرية من "المجمع العربي للموسيقى"، وجائزة من"مؤتمر الموسيقى العربية".

تكريم

أقيم على مسرح قصر اليونيسكو في أيلول/سبتمبر من العام 2016، حفل موسيقي كتحية تكريمية لـ توفيق الباشا، أحيته الأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق - عربية، بقيادة المايسترو اللبناني أندريه الحاج.

وحضر إبنه عازف البيانو العالمي عبد الرحمن الباشا إلى لبنان، من مقر إقامته في بروكسل، للمشاركة في إحياء ذكرى والده، وشارك عبد الرحمن الفرقة اللبنانية على البيانو عزفاً لألحان من تأليف والده.

وإعتبر عبد الرحمن أن كل مناسبة لتكريم كبار الموسيقيين اللبنانيين، تشكّل يوماً كبيراً ومميزاً للشعب اللبناني، الذي يعشق الموسيقى.

وقال إن "الموسيقيين الكبار من أمثال توفيق الباشا وسواه، ساهموا في تكوين سمعة لبنان الفنية في العالم".

معاناة مع المرض ووفاته

توفي توفيق الباشا في عام 2015، بعد معاناته مع المرض، تاركاً إرثاً موسيقياً وفنياً وبصمة خاصة، طبعت الموسيقى الشرقية والأغنية اللبنانية إلى الأبد.

وإذا كان لبنان قد كّرم توفيق الباشا، فان الباشا كرّم لبنان في معظم أعماله وفنه، خصوصاً عندما قدّم سمفونيته "السلام"، التي حقّقت نجاحاً عالمياً ورفعت إسم توفيق الباشا ومعه إسم لبنان عالياً، وخلّدته بحروف من ذهب على جبين التاريخ.