كيف تعبر الصباحات إلى حقولنا وجبالنا وصباح التحفت الصمت الأبديّ؟ كانت صباحاتنا تشرق من مقلتيها وتبتسم الشمس لنا من ثغرها تحاكي الحنين الذي فينا من وجنتيها، فتنبسط فوق تراب لبنان، ومنه إلى دنيا العرب حتّى لا يحجبنا الليل الطويل.

من أرشيف تلفزيون لبنان العريق والعتيق، حلقة لصباح مع وديع الصافي وفيلمون وهبة ووليد غلمية ونجيب حنكش. جميعهم رحلوا، لكنهم بقيوا في هذه المحاكاة الغنائيّة، وتزاوج صوت وديع بالصبوحة، فأخذتنا طرفة نجيب حنكش وفيلمون وهبة إلى ضحكات طويلة، وانساب اللحن الجميل ما بين وليد وفيلمون ليرشقنا بورود الجمال، ونرتشف بدورنا من ينابيع صافية كالبلور.

هل من أحد ينسى إطلالة صباح في قلعة بعلبك؟ هل تنسى أهرامات مصر ضوء وجهها وشدو صوتها، الطالع من صخر لبنان؟ لقد تعانقت أعمدة بعلبك مع أهرامات مصر بمدى صوتها، وأخذنا بسفر إلى دمشق لنتنعّم بعطر ياسمينها، وأعادنا بعد ذلك إلى جبالنا ليسجد ونسجد معه أمام هياكل المجد في بعلبك وننشد مع صباح: "قلعة كبيرة وقلبا كبير بيساع الدنيي كلّها"؟

صباح الوجه والمدى، صباح الفرح والندى صباح الأمل والرجاء. كيف لنا أن نقبل إلى ذواتنا بلا عراقة تاريخنا؟ بلا خطاب يؤسسه تراثنا بقلب نابض وطيب كنت رمزاً كبيراً من رموزه وهيكلاً من هياكله؟ لا يسوغ لنا أن نحزن بغياب صباح، لأنها الفرح. الصباح في طبيعته لا يرجو الحزن، لا يتوسّله لأنه نقيضه، هو وليد الفرح ومبعث الضياء، فكيف إذا ارتسم بهذا الوجه الذي بقي جميلاً صبوحاً حتّى لحظات الشيخوخة الأخيرة؟

ما أزال أذكر سهرة في القليعات جمعتنا إلى صباح في منزل وديع الصافي ذلك العملاق الذي ما يزال شامخاً وخالداً في الذاكرة. كنّا نسير على ضفاف اللحن الأغنّ، ونبحر بشدو صوتيهما العريقين: " الله معك يا زنبقة بهالحيّ" فتجيبه: "شاهين شو جابك عضيعتنا". هل يمكن أن ننسى في لبنان هذا التراث الذي يبقى وجهه؟ هل يمكن لي أن أعود إلى قريتي غير البعيدة عن قرية صباح، خارج هذا السياق وخلوّاً من حنين منظور ومرسوم فوق شرفتي المطلّة على بيروت لؤلؤة المتوسّط وجبال لبنان الشمّاء والحلوة وهي نتتنظر الفجر الجديد لتزدان به؟

ملحنّون كبار وقعوا لها ألحانهم، شعراء كبار أغنوها بكلماتهم، منتجون كبار افتتنوا بها، وكثيرون ممن عاشوا العصر الذهبيّ وعاصروا الكبار يتساءلون مع رحيلهم، كيف سيكون مستقبل لبنان بالعمق الفنيّ والغنائيّ والمسرحيّ بعد غيابهم، وما هو دور الأجيال الجديدة في حفظ التراث المجيد وبلورته وترجمته وجعله رافداً من روافد الحضارة والثقافة القائمة على قيم متوثّبة نحو غد مضيء؟ يقول الناقد والمفكر الدكتور إحسان عبّاس: "إنّ الأمّة التي لا تخلّد عظماءها على ورق البردى لهي أمّة زائلة" أي غير قابلة للوجود.

مأساتنا أن الكبار يغيبون ويلتحفون تراب الأرض فيما الذاكرة ناضبة ولا يستلهمها أحد لكتابة إبداعية مضيئة سواء في المسرح أو الغناء أو الشعر أو اللحن... غادرتنا صباح فجر أمس الأوّل إلى فجر خالد منسوج بخيوط القيامة.

وقد دعتنا للفرح للعودة إلى الينابيع الفولكلورية يوم وداعها، وجعنا غير محصور بغيابها بل ممدود إلى أسئلة وجوديّة ما نزال في مسرى النقاش حول أجوبة محجوبة في ظلّ سيطرة السوق الاستهلاكية على الفنون واستهلاكها ما يرضي الرأسماليّة المتوحّشة من فنون هابطة تخدش الأذواق وتربّي أجيالنا على التفلّت وترمي بهم في الفراغ والخواء، بعيداً عن أصالة تراثنا العربيّ والمشرقيّ والتي كانت صباح هيكلاً من هياكله الرخاميّة المشعشة.

هذا نقاش دار بيني وبين إيلي شويري أحد العمالقة الكبار الذي لحّن كثيرًا لصباح بحضور المطربة السوريّة الراقية صاحبة الصوت الذهبيّ والحريريّ حلا نقرور، وأستاذ الشعراء جورج شكّور قبل وفاة صباح بأسبوع وكأنّنا نستقرئ الأزمنة المطلّة. نحن في زمن التلاشي المقيت، ولكن ما يزال عندنا بصيص نور بأصوات جميلة عذبة تبشرّنا بمواكب الخير الآتية من بعيد.

صباح المدى والوجه الضحوك، سلامي لك وسلام الله عليك في رحلتك المعطّرة بالروح، والمتسربلة بالجمال، والتائقة بها إلى بهاء استنزل عليك، وأنت تتوشحين بثوب موشى بالذهب، بل بخيوط الشمس وضوء القمر.

وإلى اللقاء معك فوق ربى لبنان وقلعة بعلبك، لنسجد معًا لمجد الله ينسكب في جمال مديد يبقى صورة عن الفجر المرتسم فوق جبالنا الشمّاء، وصباح مطلّ تبقى حنجرتك الذهبيّة والأوف الطويلة رحم انبلاجه طويلاً طويلاً.