احتفلت الجامعة اللبنانية الأميركية LAU بمئويتها هذا العام (1924-2024)، وقد أعدَّ مركز التراث اللبناني فيها ضمن برامج الاحتفال، مؤتمرًا من ست جلسات أكاديمية عالجت نتاج الأخوين رحباني وتأَلُّق فيروز فيه، من زوايا مختلفة نصوصًا وأَلحانًا وأَداءً فيروزيًّا مميَّزًا.


وكانت الكلمة الأبرز للفنان اللبناني مارسيل خليفة، استعاد فيها نوستالجيا من صباه، وتحدث بأسلوب أدبي تعبق كلماته بوصف يكاد ينطق ليذكر مآثر الأخوين رحباني وفيروز، ونشر خليفة كلمته في صفحته الرسمية بموقع للتواصل الاجتماعي كاتباً:
"عاصي ومنصور "ما كانَ أَبْيَنَ مِنْ بَيَانهمَا "
لولا صوت فيروز لكنت يتيم الأم !
عاصي ومنصور في فوّار انطلياس يتهامسان : أنت انا وأنا أنت ، وما بيننا الأُرجوان وموكبُ الزمان على جسدٍ كًنَّاهُ سويّاً ، وكان لنا خيمةً منصوبةً على تُخُوم حقل من الزَّنبَق .
عاصي ومنصور في انطلياس حيثُ يقيمان ، ومن ثمّ في أقاصي الدنيا حيث تَشُّدُّ أعمالهما رِحْلَها وتغتربُ . ولسعةُ الشِعر في شِعرهما لغةٌ تَفوحُ لها رائحةُ المدى وينتشر عرْفُها في البعيد ، فلا هي من قديم معتَّق في جِرار الكلام ولا هي من بقايا مُنمنمات الألحان .
الراهب الأنطوني بولس الأشقر أستاذهما الأول منذ قَذَفَتْ به السماء في دَيْر مار الياس بانطلياس وأَشْعَلَ بمزاميره الرائدة ومقاماته الصادحة عطش صحراء الخامتين الواعدتين . وكانا أمام جملتين مطرزتين بِسَجْعِ النهاوند ينحنيان ويبكيان ، أو من سكرة بايقاع السَمَاعي الثقيل يَأثَمان . تلك رحلتُهما ولوعتُهما ومتاعُهُما الأقْدَمْ . وبولس الأشقر كتاب يعلّمُهما كيف يأنَسان بما تَعَلَّما .
الأخوان فَتَّحا الأبواب الذي لا حُرّاسَ عليه وأطلقا السحريّ في الموسيقىى والشِعر شهداً يتقطَّر . وهبا الوجود الممكن للمُحال وصنعا في لحظة صمت ما قال العاشق لعشيقته حين شَعَّ الحنينُ الى الوصال ، وأطلقا في البياض موجَ الرحيلِ الى البعيد على صَهوة الشهوات .
فيروز سورةٌ ترتلُها القادمات من أغاني الريف تَحمِلن القِراب صُبحاً ولقطاف مسائهنَّ تُهيًئْنَ السِلال . صوتها حكمةٌ ورعشةٌ يعرفها الأنبياء ، قرينُ رؤيَةَ ما لا يُرى . صوتها الوجعُ الشديدُ يرفع روحاً عن المألوف . صدى البعيد الذي يأتي ليأخُذَكَ . صوتها الشدَّةُ والصَّدمةُ والدهشةُ ، وهو الولادةُ من مخاضٍ لا ينتهي . هو الكرزُ على صدور قُرَويّاتٍ يَحملنَ حطب المساء البارد ، ويروضْنَ بالمواويل شَبَقَ الماعز أو يردّدنَ نحيب الروح في الجهات . هو أولُ الحب وبُحَّةُ الناي في مساءات الرُّعاة . هو أغنيةٌ ترصِّعُ صورة تُحاكي ما في الروح من نسقٍ فوضويّ يُشيّدُهُ الخيال .
اتذكّر عندما كنت شاباً صغيراً ، متحمسّاً أخرقاً وكنت أريد أن أغيّر العالم التقيت بعاصي ومنصور وفيروز في بلدتي عمشيت ببيت بطرس جريس سعد حيث كانوا في زيارة عائليّة . اذكر كيف تحولت الضيعة الى ساحة من ساحات اعيادهم . كنت أقف بقامتي الصغيرة ، قرب حافة الدرج الطويل المؤدي للبيت العالي ، أقف بعد ان ينتشر الخبر بالساحة بأن الرحابنة مدعوّونَ على " الغدا " في هذا البيت العمشيتي . كنت اتهامس ورفاقي الصغار ، حين نلمحُ وجهاً من وجوه هؤلاء المدعوّين : عاصي ، منصور ، فيروز .
وعندما بدأت بالدراسة الموسيقيّة ، وفي إحدى زيارات العائلة الرحبانيّة المتكررّة ، دُعيتُ مع عودي الى البيت العالي ، دخلتُ ، لستُ اذكرُ كلاماً ، اذكر أنني تعثرت بطرف السجادة في وسط الدار ، احمرَّ وجهي خجلاً تمالكت عندما سمعت عاصي يقول لي : شو بدّك تسمعنا يا شاطر . وعزفت لونغا نهوند كنت قد تعلمتها في الكونسرفاتوار . عزفت بصوت خافت ، مستعجل ، وفي وجهي اعتذارٌ كأنني أفعل شيئاً عاطلاً وأريد أن أخلُص منه بسرعة . وحين اعود الى البيت الى وجه أمي وأراه مشرقاً يحرضني على اجوبة لأسئلة كنت أقرأها في عيون ماتيلدا . أخبرها عن إطلالة منصور وكلام عاصي وصمت فيروز واخبرها عن تهيّبي أمامهم فتذكرني بأن لي موعداً مع استاذي في التمرين على العود .
" حين بكى الطفل وأراد أن تقطف له أمه القمر ، أتت بدلو الماء وصوبته الى السماء ، مدّ الطفل يده الى الماء فانكسر القمر ، ضحك الطفل ثمّ نام " صحيح ان الولد ضحك ثم نام . أما انا فبقيت ساهراً ألملم تناثر القمر على وجه ذاكرة تموج كالماء الهارب من الولد ليغطّي مساحات شاسعة من الزمن . يصبح ماء الدلو جدولاً نهراً بحراً ضجيجاً غناءً رقصاً سكراً عرساً وجعاً ناراً تصهر كل ما قسا فيّ وتحجّر وتعيده جديداً نديّاً نقيّاً مثل قربانة أولى أو مثل قبلةٍ أولى . عاصي ومنصور وفيروز رأيتهم يصقلون مرآة للقمر على صفحة الماء ، يضحكون كالأطفال أمام انكسار القمر .
عاصي ومنصور بعد سيّد درويش مَنْ قلب معادلة الغناء العربيّ . معهم انتقل الغناء من التلحين الى التأليف الموسيقي . حيث النص الموسيقي يعيد كتابة النص الشعري ثانية وحيث يحرّر في الوقت عينه - الأداء الصوتي ليعبر عن نفسه من الداخل . ولقد افلحوا في استخراج موسيقى الشرق المخبوءة بالعودة الى الينابيع ، الى التراث البيزنطي والسرياني الكنيسيّ ، والى التراتيل والمدائح والآذان ، والى المقام والموشحات والقدود والادوار والموّال والى التراث الشعبيّ فأخذوا من مخزونه ليعيدوا كتابته بلغة موسيقية اوركسترالية انيقة وباذخة الجمال . والتزموا قضايا لبنان وامتهم العربيّة ، وفي القلب منها قضية فلسطين ، والتزموا القضايا الاجتماعيّة العادلة للفقراء والمحرومين والمهضومة حقوقهم ورفعوا الصوت جهيراً ضد الاحتلال والاستغلال والاستبداد . ومعنى الالتزام عندهم خرج من حدود الوطنية والقومية ليفيض عنها الى الرحاب الانسانيّ الكونيّ .
تلك رسالتهما الفنيّة الحضاريّة التي ذهبت في رحلة مديدة من انطلياس الى رحاب الكونيّة .
شكراً عاصي ومنصور وفيروز لكل هذا الفيض من الجمال والابداع الي قدمتموه زاداً لثقافتنا وذائقتنا . شكراً للصبر والصدق والاصرار على خط الالتزام الانساني .
عاصي انت غَنِي ، غَنِي ، غَنِي ، غَنِي، رغيفك طيّب المذاق وقوت كبير لمن يمر بضعف في العزيمة .
منصور كلامك الكبير يجعلنا نخجل ألاّ نحاول أن نكون كباراًً .
عاصي ومنصور " ما كانَ أبْيَنَ من بَيَانهمَا "
لولا صوت فيروز لكنت يتيم الأم !
فيروز غنّي كثيراً لأن البشاعة تملأ الوطن .
أقبّل صوتك . . .".