لمع أسماء فنانين كثر، قدموا مسيرة حافلة من الفن الجميل قديماً، ومنهم الموسيقي المصري سيد درويش.
هو عملاق عربي، مطرب وملحن مصري، وأحد أعظم الموسيقيين في مصر، ويعتبر أباً للموسيقى المصرية.
رغم مسيرته الفنية القصيرة، إلا أنه قدم خلال 6 سنوات إرث فني كبير طُبع في ذاكرة المستمعين، فلحن وغنى العديد من الأغاني التي أصبحت جزءًا من التراث المصري، مثل: "شد الحزام" و قوم يا مصري" و "سالمة يا سلامة" و"الحلوة دي قامت تعجن"، كما لحن النشيد الوطني المصري.
كان السيد درويش من أوائل الفنانين الذين ربطوا الفن بالسياسة والقضايا الإجتماعية،ولقب بـ"فنان الشعب"، وتوفي بشكل مفاجئ ولا زالت أسباب وفاته غامضة حتى الآن.


نشأته:

ولد السيد بن درويش البحر يوم 17 آذار/ مارس عام 1892، في مدينة الإسكندرية، ونشأ في أسرة متوسطة الدخل.
في الخامسة من عمره، بدأ يتعلم القراءة والكتابة، ويحفظ القرآن، وبعد وفاة والده، وهو في السابعة من عمره، قامت والدته بإلحاقه بإحدى المدارس، فبدأ بدوره ينشد مع أصدقائه، وبذلك اتضحت موهبته الفنية، ثم التحق بالمعهد الديني بالإسكندرية عام 1905.
كان سيد درويش في الصباح يذهب إلى المعهد الديني للدراسة، وعند الظهر يقوم بالأذان في المسجد تلبية لرغبة أصدقائه والمعجبين بصوته، بينما في المساء يتفرغ لهوايته وحبه للموسيقي والغناء.
كانت عائلته تحضّره لأن يصبح شيخاً، إلا أنه سرعان ما خلع العمامة والقفطان، وعمل مغنياً.


زواجه وعلاقاته الرومانسية:


في سن السادسة عشرة من عمره، تزوج السيد درويش، وأصبح مسؤولاً عن عائلة.
لم تكن هذه الزيجة الوحيدة في حياة سيد درويش، بل تزوج أربع مرات، وكان محبا للجمال، وله علاقات غرامية متعددة، كانت مصدر إلهام لفنه.
وكان هناك زيجة في حياة سيد درويش لم تتم، إذ جاء يوم فرحه ورأى العروس عجوزاً غير جميلة، فقال وهو يهرب " الشيطان نفسه لو رآها لهرب".


من عامل بناء إلى فنان:

الزواج الأول لسيد درويش أضاف أعباءً إضافية على الشاب المسؤول عن والدته وشقيقته، لذلك وجد عمل في غير الفن، وبدأ يعمل كعامل بناء، وكان يغني دائماً أثناء العمل، فيشجع زملاءه على النشاط، لذلك طلب من المسؤول عن العمل بالتفرغ للغناء لتشجيع العمال فقط.
وأثناء وجود الأخوين أمين وسليم عطا الله، في مقهى قريب من موقع عمل السيد درويش، أعجبا بصوته واتفقا معه على أن يرافقهما في رحلة فنية إلى الشام في نهاية عام 1908 وكان لا يزال في السابعة عشرة من عمره.
عام 1912 ذهب درويش إلى الشام، وبقي هناك حتى عام 1914، تعلم أصول العزف على العود وكتابة النوتة الموسيقية. كما لحن أول أدواره "يا فؤادي ليه بتعشق".


عودته للقاهرة وبداية تألقه في عالم الفن:

بعد أن لحن أول أدواره "يا فؤادي ليه بتعشق"، بدأت شهرة سيد درويش تتوسع، وعام 1913 عاد للإسكندرية، وتفرغ للفن، وقدم في ذلك الوقت أهم رائعاته الموسيقية، مثل "زوروني كل سنة مرة"، و "في شرع مين"، و "أنا هويت"، و "أنا عشقت"، و "يا فؤادي ليه بتعشق" وغيرها.
انتقل السيد درويش إلى القاهرة عام 1917، فسطع نجمه وأُعجب به الجمهور، وتهافتت الفرق الفنية في تلك الفترة على تلحينه، فلحن لأكبر الفرق المسرحية، مثل نجيب الريحاني، جورج أبيض وعلي الكسار.
كما تعاون السيد درويش مع الكاتب المسرحي بديع خيري، وأسفر هذا التعاون عن رصيد كبير من الأعمال الفنية والوطنية التي لحنها وغناها سيد درويش وكتبها بديع خيري، وأبرزها: "مخسوبكوا أنداس، شد الحزام على وسطك، يا حلاوة أم إسماعيل، هز الهلال ياسيد، الحلوة دى قامت تعجن، البحر بيضحك ليه، اقرأ يا شيخ فقاعة تلغراف آخر ساعة، آه ده اللي صار".
أصبح السيد درويش الملحن الأكثر شهرة في مصر، وتفوق على أهم الملحنين المخضرمين، حتى قامت الثورة المصرية عام 1919، فغنى أغنيته الشهيرة "قوم يا مصري"، وهنا كانت الشعلة لشهرته.



أول من ربط الفن بالسياسة وتحول إلى "فنان الشعب":

كان سيد درويش من أوائل الفنانين الذين ربطوا الفن بالسياسة والحياة الاجتماعية، فبعد الثورة المصرية عام 1919، أصبح سيد درويش مهموماً بقضايا وطنه، وغنى ولحن العديد من الأغنيات الوطنية والثورية، والأغنيات المقاومة للاحتلال الإنجليزي لمصر، وحاز بذلك على لقب "فنان الشعب".
لحن سيد درويش أغنيته الشهيرة "قوم يا مصري مصر دايما بتناديك.." كما لحن النشيد الوطني المصري "بلادي بلادي لك حبي وفؤادي" التي اقتبس فيها مطلع الأغنية من أقوال المناضل المصري مصطفى كامل، وأيضا لحن أغنية "أنا المصري كريم العنصرين".
ساند درويش الطبقات الشعبية والفقيرة، واستطاع أن يقدم ألحانا تعالج هموم المجتمع وقتها، واستخدم الفن والموسيقى في الجهاد الوطني والإصلاح الاجتماعي.


أبرز أعماله وإنجازاته:

كانت مسيرة سيد درويش الفنية ست سنوات فقط، من 1917 حتى 1923، قدم خلالها ألحانا لكل الفرق الموسيقية. وفي أيامه الأخيرة أهتم بتكوين فرقة خاصة به حتى يتخلص من متاعب أصحاب الفرق الأخرى ويفرغ لفنه.
رغم حياته الفنية القصيرة، قدم سيد درويش عشرة أدوار واثني عشر موشحا، وعشرة أوبرات، كما قدم أهازيج وأناشيد وأغاني وطنية.
من أشهر أغاني سيد درويش: "اهو ده اللي صار"، و"بلادي بلادي"، و"سلمى يا سلامة"، و"زوروني كل سنة مرة"، "الحلوة دي قامت تعجن" وغيرها.
كان سيد درويش شخصية واثقة من نفسها، وحالة فنية فريدة، إذ استطاع أن يخلق شخصية للموسيقى المصرية، كانت الأساس لكل ما تلا ذلك من موسيقى وألحان على مدى أكثر من 100 عام.

وفاته المفاجئة لأسباب غامضة:


توفي سيد درويش فجأة بشكل غامض ، في 10أيلول/سبتمبر 1923، وكان في ذروة عطائه الفني.
ذهب درويش في الأول من أيلول/سبتمبر ذلك العام، إلى مسقط رأسه بالإسكندرية، وذلك للاشتراك في استقبال عودة الزعيم سعد زغلول من المنفى، لكن بحلول يوم 9 سبتمبر، توفي بشكل مفاجئ وغامض عن عمر يناهز الـ31 عاماً.
لا تزال حادثة وفاة درويش لغزاً حتى اليوم، وقد أثير الكثير من الروايات حول أسباب الوفاة، وقيل أن الوفاة ترجع لسبب تسمم مدبر من الإنجليز بسبب أغانيه التي حثت الشعب على الثورة ضد الاحتلال، بينما قال آخرون أنه أثر عليه تعاطيه المخدرات وإدمان الخمور.
دفن درويش في مقابر المنارة في الإسكندرية، وأثناء التشييع تم حمل ثمانه بسرعة إلى مثواه الأخير قبل أن يشعر أحد بموته، ولم يحضر التشييع إلا عدد قليل.
وقال أحد أحفاد درويش: "تم التعتيم على وفاته من الحكومة والاستعمار حتى لا تلتهب مشاعر الجماهير وتزداد ثورة الشعب، ولم يسر في جنازته إلا أقاربه وجيرانه".
كتب على قبر درويش: "يا زائري لا تنسني من دعوة صالحة.. وارفع يدك إلى السما واقرأ لروحي الفاتحة"، ورغم رحيله المبكر، إلا أنه ترك إرث فني ضخم، وعاش في ذاكرة الملايين من الوطنيين.