الفنان التينور غبريال عبد النور عاشق للفن والطبيعة، يتمتع بالحس الوطني، الذي يدفعه إلى التجذر بأرضه، والتمسك بتاريخه. صريح ومتمرد على كل ما يسيء إلى الفن الراقي والوطن. فنان وموسيقي، وباحث يملك الإختصاصين الشرقي والغربي، درس علم النفس إلى جانب دراساته الموسيقية. طوّر نفسه مؤخراً كملحن ومؤلف موسيقي، ويكتب الشق الأوركسترالي لأعماله.
مدافع شرس عن الهوية الفنية اللبنانية، ويؤمن بأن الأغنية تحمل بُعداً ثقافياً وفكرياً وحضارياً، وقادرة على تنمية المشاعر الراقية في داخلنا. يُعتبر التينور الأكثر نشاطاً، وإستحق عدة ألقاب، منها "قمر بيروت" و"فخامة الصوت".
موقع "الفن" إلتقى غبريال عبد النور، وكان هذا الحوار.

تُحّضر عملاً جديداً في ستوديو جوبارودجيان، هل يمكن أن تطلعنا على التفاصيل؟

سجلت قطعة بعنوان "مجد لبنان"، من كلمات الأب مارون غصن أستاذ الخطابة ومدير المحفل الأدبي في جامعة القديس يوسف، واللحن من أرشيف ملحن النشيد الوطني اللبناني وديع صبرا، وتعود إلى حوالى المئة عام، ورغبت بإعادة تسجيلها بصوتي، وأنتظر الظروف الملائمة لتصويرها فيديو كليب، حيث سيتم إبراز طبيعة لبنان الجميلة، ويكون لها حيّز سياحي.

ما هي آخر النشاطات الفنية التي قمت بها؟

أحييت رسيتالاً في اليونان في كنيسة القديسة أولغا، بدعوة من الرعية، وبحضور السفير كنج الحجل وأبناء الرعية من جنسيات متنوعة، من لبنان وفلسطين والأردن ومصر. عيد الميلاد له أهمية كبيرة بالنسبة لي، والقطع التي كُتبت للميلاد منذ ٣٠٠ أو ٤٠٠ عام، تحمل ذاكرة كبيرة، وقيمة موسيقية جميلة جداً، وكلماتها لها أبعاد عميقة. وأنا ضمن إختصاصي الأوبرالي والشرقي، وكل الأبحاث التي أجريتها، أعطيت مدى أكبر لغنائي، ولأعمالي المرتبطة بالدين، فقدمت الأرامي والسرياني والبيزنطي، والأعمال العالمية. وكانت الأغاني التي قدمتها من ألبومي "على دروب المغارة"، ألحانها عالمية، من كلمات الياس ناصر وباسمة بطولي وسهام الشعشاع وندى عبد النور وكلماتي. وفي لبنان قدمت ثلاث أمسيات، أبرزها في رومية مع كورال ثانوية مار ضومط للراهبات الأنطونيات، وكان رسيتالاً مميزاً بعد توقف بسبب الحجر الصحي.

إستخدمت إيقاع التانغو في أغنيتك "تانغو الحب"، ما السبب؟

هذا ليس بشيء جديد على الإطلاق، فقد بدأ إيقاع التانغو مع عبد الوهاب وفريد الأطرش. في الأغنية اللبنانية، لدينا قطعة إسمها "تانغو الأمل" لـ نور الهدى، ولفيروز أيضاً أعمال فيها إيقاع التانغو. وبما انني أملك الإختصاصين الغربي والشرقي، لهذا السبب أحببت أن أمزج بين الشرق والغرب، وإخترت كلمات الدكتور محمود عثمان والتوزيع الموسيقي لـ حازم جبور، وهو لحن أعتز به كثيراً، لأنني نقلت منه أكثر من مقام، من النهوند إلى البياتي ألى الرست، وهي في صلب المقامات الشرقية، وقد شكّل "تانغو الحب" بصمة مهمة في تاريخي الموسيقي.


هل يمكن القول إن غبريال عبد النور إنفرد بإيقاع التانغو؟

أعتقد أنني الوحيد الذي قام بذلك في الفترة الأخيرة.

ما رأيك بالهوية الفنية اللبنانية؟

نحن نعاني من مشكلة في الهوية الموسيقية اللبنانية، الجيل الجديد يبتعد عن هويته، وأنا أعتبر أنها سياسة صهيونية، تتعمّد تخريب الهوية، وبدأت فصولها مع الدمار الذي لحق بالأماكن الأثرية من قبل داعش، في مدينة أور في العراق، وفي الموصل وحلب وحمص وتدمر، وكان الهدف تسطيح تاريخ المنطقة، وإنتزاع هويتها، ولهذا السبب أطلقت حملة "أنقذوا تراث حلب" عام ٢٠١٢. وأنا كفنان وباحث موسيقي، نشأت بالتزامن مع أعمال الأخوين رحباني ووديع الصافي وزكي ناصيف، وكان لهم دور في نمو شخصيتي، وفكري وخيالي، وأقر بأنني تعرفت على جبل الشيخ والشام والقدس من خلال فيروز. ومن المؤسف أن الجيل الجديد يرى الفن اللبناني من خلال المؤخرات والأغاني السطحية.

ما هي ملاحظاتك التقنية على أداء الفنانين في حفلة تريو نايت التي أقيمت في الرياض؟

لفت إنتباهي أن الجمهور كان متنبهاً للمغالطات والأداء غير المحترف، فقد كنت أعتقد أن الناس تبدل ذوقهم الفني، ولا يميزون بين الأداء الصحيح والأداء الخاطئ، لكن الحملة التي إنطلقت على مواقع التواصل الإجتماعي، أكدت أن الناس ما زالوا يمتلكون الوعي الكافي للتمييز. لم يتم التحضير بشكل جيد ومنظم للحفل، مع العلم أن الفرقة الموسيقية كانت جيدة، والمفاجئ هو أن بعض الفنانين كانوا يقرأون كلمات أعمالهم، وكان هناك تفاوت بالطبقات الصوتية، لأن الطبقة الصوتية للرجل تختلف عن الطبقة الصوتية للمرأة. إفتقد الحفل للدراسة العلمية، وكان من الأفضل أن لا يغني فنان وفنانة معاً، إلا من خلال خيارات صحيحة تناسب طبقتَي صوتيهما. هؤلاء الفنانون زرعوا الفرح، ووجودهم محبب في يومياتنا، إنما كان المطلوب تمثيل بلد يعاني ما يعانيه بشكل محترف وراقٍ.


كيف تقيّم مستوى الأغاني حالياً؟

مع الأسف، الأغاني تجارية إستهلاكية ومتشابهة، تستمر لفترة زمنية محددة، ومعظمها لا تتمتع بمستوى ​​​​​راقٍ في العناصر الأساسية، أعني الكلمات واللحن والأداء. أما الأصوات الجميلة، فهي في الظل، وتشارك أحياناً في سهرات ثقافية لتكريم كبار المطربين والمطربات. على الفنان أن يكون مسؤولاً على المسرح، ويجب أن يكون أداؤه صحيحاً. قد تعاكسه ظروف صحية أو نفسية، لكن الأداء الخاطئ أصبح شائعاً، وهذا مؤسف. أصبحت النجومية سهلة، وصرنا عبيداً للترند. نفتقد لحس النقد، ولا أحد يجرؤ على إنتقاد فنان، وللأسف معظمهم يشاركون في لجان تحكيم. كنت لسنوات وما زلت، أطالب الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة، بإحياء أغاني فيروز ونصري شمس الدين ووديع الصافي وصباح وإيلي شويري، ونور الهدى التي نافست أم كلثوم، ولحّن لها أهم الملحنين، لأنه لا يُسلط الضوء على تاريخهم الفني. وأنا أقارب الموضوع بحرقة، لأن الأجيال الجديدة تستحق ظروفاً أفضل على كل المستويات.

ماذا عن البعد الثقافي للأغنية؟

الأغنية لها بُعد ثقافي وفكري وحضاري، وقادرة على تنمية المشاعر الراقية في داخلنا، وتنمية فكرنا، وتحافظ على هويتنا، وعلى علاقتنا بأرضنا وجذورنا ووطننا. وهناك أعمال بمثابة نشيد وطني لبلدنا لـ زكي ناصيف ووديع الصافي، وأعمال للأخوين رحباني من مسرحيات وأغاني، وهي تبرز قيمة بلدنا وتاريخه، ويجب أن تبقى الأغنيات على هذا المستوى.

أنت لا تخفي موقفك السياسي، وتعبر عنه بصراحة، بينما بعض الفنانين يبتعدون عن هذا الخيار، ما السبب؟

أنا مواطن وأخاف على بلدي، ولي رأيي الخاص، وأحارب من أجله، لكني لا ألغي الآخر. ما نراه مؤخراً، هو أن البعض سمح لنفسه بأن يشتم ويهين صاحب الرأي المعاكس. والمؤسف أننا رأينا على محطات تلفزيونية، أشخاصاً أهانوا أفراداً من القوات العسكرية. أنا لا أقبل بأشخاص يدعون أنهم من فوج الطناجر وفوج الهيلا هو، أنا أريد فوج المغاوير وفوج المجوقل، لأنني أؤمن بقيم المؤسسة العسكرية. ولا أقبل بأن يُهان العسكري، الذي يرفض زجاجة ماء أقدمها له على الحاجز في يوم حار، حيث أسكن في اليرزة، وهي منطقة عسكرية، هم يتحملون الظروف المناخية الصعبة لكي يحموا البلد والشعب. وأنا أطرح علامات إستفهام حول ثورة بدأت بسبب ٦ سنت، وحالياً لا تتحرك مع إرتفاع سعر صرف الدولار بشكل جنوني، هذا يؤكد مسؤوليتهم عن الوضع الذي نعاني منه. لست مرتهناً لأحد، ولا لأي جهة، والفن يتخطى الإعتبارات السياسية. غنيت مع الأوركسترا الإيرانية باللغة الفارسية في قصر الأونيسكو، وإذا تلقيت دعوة مماثلة من السعودية أو اليمن أو الإمارات، ألبي الدعوة بكل سرور. أنا ضد الحرب، أعتبر أن الأرض هي وطني، وكل الناس إخوتي، وكل الأماكن أماكني، وإذا كان لدى أحد أفراد الطوائف كراهية تجاه طائفة أخرى، فهذه مشكلته. الموسيقى قادرة على أن توحدنا، وتأخذنا إلى عالم راقٍ وإلى لغة موحدة.


هل الموسيقى قادرة على المساهمة في تغيير الوضع الذي وصلنا إليه؟

بالطبع، لكننا بحاجة إلى مساعدة من الإعلام الذي يبحث عن الرايتينغ والفضائح والأخبار السخيفة والتنجيم والإغراء، بدلاً من البحث عن المستوى والمضمون.

أين غبريال عبد النور من المقاومة الفنية؟

أنا مسؤول ضمن الإطار الأكاديمي، فقد عملت على مناهج موسيقية وكورالات كبيرة، أطلقت ألبوماتي بنفسي، ودربت أصوات العديد من الفنانين. لا أساوم، ولا أدخل في المعمعة الفنية. أسعى إلى إقامة شبه دائمة في الخارج، لإيجاد فسحة لإبراز مشروعي الموسيقي. إخترت البقاء في لبنان منذ بداية مسيرتي الفنية، بسبب تمسكي بتاريخ وثقافة بلدي، والمساهمة في منح إضافة للمكتبة الموسيقية، وليكون لي منحى خاص، لكن في ظل الظروف الحالية المتدهورة، أنا بحاجة إلى السكينة من أجل الإستمرار، ولن أتخلى عن الفن اللبناني، وعن ما يمكن أن أقدمه من أجله.