شكل إكتشاف الإنسولين ثورة وتقدم غير مسبوق في عالم الطب، حيث كان العلاج الوحيد لمرضى السكري هو الإلتزام بحمية غذائية، لكن الأغلبية ممن شخصوا بهذا المرض لم يعيشوا طويلاً، إذ حصد مرض السكري أرواح الملايين قبل اكتشاف الإنسولين.

وحصل مبتكرا الإنسولين، فردريك بانتنغ وتشارلز بيست، على جائزة نوبل في الطب.


تعتبر قصة إكتشاف فردريك غرانت بانتنغ للإنسولين من القصص المشوقة جدا، فخلال إحدى الغارات في الحرب العالمية الاولى، أصيب فردريك غرانت بانتنغ بجروح خطيرة نُقل بسببها إلى أحد مستشفيات أونتاريو للعلاج، ومنحه بعد ذلك الجيش وسام الجندية، لشجاعته، فكان ذلك سبباً لمغادرته الخدمة العسكرية.
فافتتح عيادته المتواضعة الخاصة وظل ينتظر المرضى طويلًا، ولكنهم لم يأتوا، ما دفعه إلى إغلاق العيادة.
وتراكمت عليه الديون بعد ذلك ولم تكن حياته الأسرية مستقرة فقامت خطيبته بهجره، ولما وصل إلى أقصى درجات الإحباط قرر أن يستعيد حيويته وينهض، فاتجه إلى دراسة تجارب أساتذته من جديد، ويبحث عن معلومات ليجد مؤلفات قيّمة للدكتور الألماني أوسكار منكوفسكي، فبدأت قصة اكتشاف الإنسولين المشوقة.
وبينما كان فردريك يطالع أحد كتب الدكتور الألماني أوسكار منكوفسكي، استوقفته واقعة رواها الدكتور الذي ألف الكتاب، مفادها أنه أستأصل بنكرياس أحد الكلاب ليرى هل يمكن للكلب أن يعيش بدونه أم لا، ولاحظ أنه في اليوم التالي من الجراحة ظل الكلب على قيد الحياة وكانت الملاحظة الغريبة أكثر أن بول الكلب تجمعت عليه أعداد هائلة من الذياب.
لفتت فردريك هذه الملاحظة المثيرة وبدأ بتتبعها على نحو جاد عبر سلسلة من التجارب والاختبارات التي أفضت في النهاية إلى إكتشافه الإنسولين، أطلق عليه أنذاك اسم ایلینین، الذي اشتهر بعد ذلك بالإنسولين.
لعل الفكرة العبقرية التي فكر فيها د. بانتنج هي أنه إذا ربط قناة البنكرياس ومنع العصارة الهضمية من الخروج إلى الأمعاء، فإنها سوف تتراكم داخل هذه الخلايا وتتلفها، وهذا يعني أن الخلايا الأخرى في البنكرياس وربما هي خلايا لانجرهامز لن تتأثر بهذا الربط لتكون هي الخلايا التي تفرز المادة المجهولة.


ومن المواقف الطريفة أن بانتنج كان يجوب الشوارع الخلفية المظلمة في مدينة تورونتو يبحث عن أي كلب ضال من أجل تجاربه، فقد كان عدد الكلاب المخصصة له من الجامعة قليلً، كما أن الكلاب في تورونتو غالية الثمن.
كانت كلاب التجارب تموت واحدًا بعد آخر في مختبر د. بانتنج، وجاء دور الكلب رقم 390، فبعد أن أجريت له عملية ربط قناة البنكرياس تأكد بانتنج وبست أن جميع خلايا البنكرياس قد أتلفت ما عدا خلايا جزر لانجرهامز، وهكذا تم استئصال البنكرياس من الكلب، وتقطيعه إلى أجزاء صغيرة، لحقنها في الكلب رقم 410 الذي كان قد تحول جراحيًا إلى مريض بالسكري.
مرت الدقائق بطيئة وهم يترقبون كيف سيكون حال هذا الكلب هل سيكون مصيره كغيره أم سينجو وتنجح معه التجارب؟ بعد ساعة حلل الأطباء دم الكلب ووجدوا أن نسبة الغلوكوز ما زالت مرتفعة كما كانت قبل حقنه بخلاصة خلايا لانجرهامز، فانتظرا ربع ساعة أخرى، وأعادا تحليل دم الكلب ثانية وكانت المفاجأة، فقد بدأت نسبة الغلوكوز بالانخفاض.
تسارعت نبضات قلب الطبيبين فردريك بانتنغ وتشارلز بيست الذين عملا سوياً على هذه التجربة، وانتظرا قليلًا وحللا الدم مرة ثالثة ليجدا أن نسبة الغلوكوز عادت إلى المستوى الطبيعي.
تكللت التجربة بالنجاح ودخل الكلب 410 التاريخ من أوسع أبوابه، كأول مريض بالسكري تم علاجه بالإنسولين، وهكذا أيضًا دخل دكتور بانتنغ والدكتور بيست التاريخ إلى الأبد في صيف عام 1921.
أعاد دكتور بانتنغ التجارب مرة أخرى على كلب آخر، وكانت النتائج مبشرة بالنجاح، فأبلغ بانتنغ البروفيسور ماكليود بالنتائج، فأعطاهما مختبرًا حديثًا مُعدًّا بأفضل التجهيزات العلمية، وعين لهما أحد أفضل الصيادلة في القسم وهو الصيدلي جيمس كوليب لمساعدتها في تقنية تحضير الإكسير من غدة البنكرياس، فهو لم يكن نقيًا في البداية إذ عانت كلاب التجارب من الحساسية والمضاعفات وكانت تموت.


دُعي د. بانتنغ والبروفيسور ماكليود لإلقاء محاضرة في أحد المؤتمرات الطبية العالمية في مدينة بوسطن الأمريكية، فكان بانتنغ مضطراً للاعتذار عن السفر، بسبب تكلفته الباهظة، فسافر البروفيسور ماكليود وحده، وقدم الورقة البحثية ونال كل الشهرة والتقدير، فجنّ بانتنغ لأن ماكليود نال كل الشهرة ولأنه قدم الورقة باسم قسم وظائف الأعضاء وقدم بانتنغ على أن مسؤول عن التجارب فحسب.
يوم 11 كانون الثاني 1922 ميلادي تم اختيار الشاب ليونارد ثومبسون (Leonard Thompson) وعمره 14 عامًا لتجربة اللقاح الجديد، وكان ثومبسون على حافة الموت من مضاعفات مرض السكري، فكان شديد الهزال، وشديد الجفاف، وحرارة جسمه مرتفعة جدًا وكانت نسبة الغلوكوز في الدم 440 ملليغرام/ديسيلتر.
حُقن ثومبسون بالإكسير الذي أطلق عليه اسم الأنسولين، وكان الجو ملؤه الترقب والخوف والأمل مرت الدقائق ببطء شديد، ولكن بعد ساعة انخفضت نسبة السكر في دم الشاب إلى 220 ملليغرام/ديسيلتر، واستمرت بالانخفاض إلى أن وصلت إلى 100 ملليغرام/ديسيلتر بعد 12 ساعة.
إذن فقد نجحت التجربة، لكن ثومبسون عانى من مضاعفات الحساسية الشديدة، ما اضطر د. بانتنغ إلى وقف العلاج، لأنه استنتج أن العلاج بحاجة إلى المزيد من البحث، وبعد 12 يومًا من العمل استطاع الصيدلي كوليب تنقية محلول الإنسولين واستمر علاج ثومبسون الذي كتبت له حياة جديدة.
تناقلت جميع وسائل الإعلام خبر هذا النجاح العظيم، فبعد أربعة آلاف سنة على معرفة الإنسان لهذا المرض القاتل أصبح له علاجًا فعالًا، وبهذا الإنجاز تصدرت صورة الدكتور بانتنغ غلاف مجلة التايم .
عرف العالم الإنسولين والدكتور بانتنغ، وتوالت النجاحات بعد ذلك، ففي عام 1923 تم علاج 25 ألف طفل وشاب بالإنسولين في كندا وأمريكا.
في يوم من الأيام جاء رجل أعمال أمريكي إلى د. بانتنغ ليعرض عليه مليون دولار مقابل التنازل عن براءة اكتشاف الإنسولين، ورفض الطبيب ذلك، قائلا: اكتشف الإنسولين في كندا وسيبقى كنديًا وسيُعالج جميع مرضى السكري في العالم على هذا الأساس.
عندما أُعلنت أسماء الفائزين بجائزة نوبل عام 1923، أُعطيت الجائزة مناصفة للدكتور بانتنغ وبروفيسور ماكليود، فرفض بانتنغ ذلك قائلًا إن من كان ينام في المختبر مع الكلاب لم يكن ماكليود بل السيد بيست، فرد عليه ماكليود إن من يستحقها حقًا هو الصيدلي كوليب، وهكذا اقتسم الأربعة جائزة نوبل للمرة الأولى في التاريخ.