إعتاد اللبنانيين على الاستمتاع بمشاهدة أفلام ومسلسلات الجرائم، ظانين أنها من نسيج الخيال، وإن كانت واقعية فهي تقع في بلدان الغرب.
وفي عام 1948، كانت الفاجعة، إذ تحولت هذه الأفلام إلى حقيقة، وعاش حي الجميزة برعب، بعد وقوع سلسة من جرائم مروعة في النمط نفسه، وكانت الضحية الأولى مومس تدعى أنطوانيت نجار، من ثمّ جوزيف عوّاد، وبعد أسابيع قليلة إستيقظ أبناء هذا الحي على جريمة ثالثة وكانت ضحيتها إيميلي عنطوري، وكان لا يزال المجرم طليق حر، ولم يكن لدى رجال الشرطة أي مشتبه به. فمن هو السفاح الأول في لبنان الذي أرعب سكان بيروت في أربعينيات القرن الماضي؟

نشأة فيكتور عواد

ولد فيكتور عواد في مطلع شهر شباط من العام 1922 في بلدة فتري - جبيل، خسر والديه وهو صغير فتولى عمّه تربيته وأسكنه منزله، ولكن لاحظ عمه أن سلوكه غريب، إذ كان يضرب أبناء عمّه باستمرار، وصفع زوجة عمه، فلم يكن أمام عمه خيار غير إرساله إلى ميتم العازرية في بيروت، والذي أيضاً طرد منه بعد أن قام بسرقة صندوق النذور الخاص بالكنيسة مرات عدة. وعاد فيكتور إلى بيت عمه، قبل أن ينتقل إلى بيروت للدراسة في أحد معاهدها حتى نال الشهادة المتوسطة.
حاول أن يجد وظيفة، وعندما لم يحالفه الحظ، تطوع عواد في "جيش الشرق" التابع للقوات الفرنسية، ولكن مرضه بالسرقة لم يفارقه، فقام هو وأصدقاءه بالجيش، بالسطو المسلح على رواد الحانات، وعجزت جهاز المخابرات العسكرية عن كشف هويتهم، إلى أن تم القبض عليه بتهمة سرقة الأسلحة من "جيش الشرق"، وحكم عليه بالسجن لمدة 10 سنوات ولكن خرج بعفو عام بعد فترة وجيزة.

تحول فيكتور عواد من لص إلى "سفاح الجميزة"

بعد خروجه من السجن، عاد عواد إلى بيت عمه، معتذراً منه ووعده أنه تغير، وطلب منه مساعدته، فعمل معه في محل لبيع الفحم في المنطقة، إلى أن سرق عمه للمرة الثانية وطرده، وهذه المرة تدين من إبن عمه جوزيف النقود ليفتح متجره الخاص لبيع الفحم.
وأثناء قضاء بعض الوقت في إحدى حانات الجميزة، تعرف على بائعة هوى أنطوانيت نجار، ووقع في غرامها، ولكن بحكم وظيفتها شعر أنها تخونه، رغم أن لا علاقة تربطهما، فدفع لها مبلغ طائل ليصطحبها إلى منزلٍ قريبٍ إستأجره، وبعد أن مارسا الجنس، خنقها وذبحها وقطع رأسها ووضعه في غرفة المؤن، ورمى ما تبقى من جثتها بعيداً، وسرق صيغتها.
تم العثور على الجثة بعد أشهر عدة وذلك بسبب الرائحة الكريهة التي طافت منطقة الجميزة، ولكن لم يعثر على المجرم، ليتم العثور بعد شهرين على جثة ماري شلهوب التي قتلت بالطريقة نفسها، واستمرت التحقيقات ولكن دون جدوى.
لم يقتل عواد سوى الفتيات، ولكن هذه المرة أجبر على قتل رجل، وللمرة الأولى، وكان إبن عمّه، وذلك بسبب مطالبته باسترداد أمواله، فدعاه إلى مطعم سمك، وبعد الغذاء قام بقتله ودفنه في الشاطئ.
واستكمل عواد مسيرته في القتل، إنما طوّر نفسه، وإكتشف أن الفحم يمتص رائحة الجثث، وقتل إيميلي عنيطوري، إذ خطفها وقام بخنقها ودفن جثّتها داخل حائطٍ في مبنى مهجور بالجميزة قبل أن يسرق صيغتها.
كان عواد كالشبح، يتجول في المنطقة، وكان سكانها يحبوه، ولم يشكوه ليوم واحد، فكان كان يكنّ للقديس انطونيوس، حبا عظيما يتجلى في صلواته له وتبرعاته لصندوق الكنيسة التي تحمل اسمه، وكان يكره اللون الأحمر ويخاف من الدماء، إذ عندما طلبت منه جارته أن يذبح دجاجة رفض قائلا: "ما إلي قلب"، إنما الجريمة التي أدت إلى كشفه، فكانت قتل إبن عمه، بحيث تمكن الدرك من إكتشافه بالاعتماد على السلاح الذي إستخدمه في الجريمة إذ أقدم على إطلاق أربع عيارات نارية من مسدس "كولت 12".
ودخل السجن مرة أخرى، وإعترف بـ 7 جرائم، قبل أن يحكم عليه بالاعدام بعد 10 سنوات، وعندما سئل عن آخر طلب له قبل إعدامه، فصرخ قائلا: "بدي بشارة الخوري يموت وإرتاح منو" ليطلب بعدها، وبدماء بارد سيجارة. وفي يوم 31 كانون الثاني 1949 نفذ حكم الإعدام في فيكتور عواد شنقاً في باحة القصر العدلي في بيروت، وودع محاميه موسى برنس، وعانقه بحرارة.

الأديب السفّاح يخلد إسمه في التاريخ

تحولت علاقة عواد بمحاميه موسى برنس، من موكل ومحامي، إلى أعز الأصدقاء، وعمل الاثنين معاً طول السنوات ليشهرا بعضهما، فكانت الصفقة أن يكتب عواد مذكراته، ومسيرته بالقتل، وينشرها المحامي بعد وفاته، فقال له فيكتور يوماً "اشهرني تَـ إشهرك" ، ونشرت تحت عنوان "اعترافات فيكتور عواد في مستودع الفحم والجماجم"، إنما بعد مرور السنوات الطويلة، إختفى الكتاب الأصلي، لم يستطع أحد إعادة طبعه. وحاول برنس فهم تكوين هذه الشخصية الغريبة وتحليلها، بعد الجلسات العدة التي أقامها مع القاتل، وشرح كل هذا في كتابه "ذهب ودم"، وفي كتابه وصفه كما هو، كتب عنه كإنسان عادي، وليس كمجرم، لم يبرر أفعاله، ولم يجعله الضحية، إنما أيضاً لم يجرده من إنسانيته.