في كل مرة يراودني فيها شعور الإشتياق لعمل الدرامي متميز بحبكته وإخراجه وكل تفاصيله، أستذكر مسلسل "ضيعة ضايعة"، المسلسل الذي قد يكون الأكثر مشاهدة والأشهر في تاريخ الدراما السورية، والذي ما زال حتى يومنا هذا يحصد نجاحاً.


"الثورة الرقمية جعلت أشياء كثيرة لا يمكن حدوثها قبل سنوات عدة، أمراً ضرورياً لحياتنا اليوم، لا يمكن أن نتخيل حياتنا من دونها، باختصار، الإنسان أصبح عبداً للتكنولوجيا بكل ما تعنيه كلمة عبد من معنى، وكما هي العادة في كل المجازر التي تحدث، هناك ناجٍ وحيد (أم الطنافس الفوقا)".
بهذه الكلمات، تبدأ كل حلقة من حلقات المسلسل بصوت المذيع الراحل محمد السعيد، وبحلقات متصلة منفصلة، تدور أحداث المسلسل بقرية إسمها "أم الطنافس"، تلك الضيعة "الناجية" من ثورة التكنولوجيا والحداثة.
جازف المخرج الليث حجو في إخراج هذا العمل، الذي راهن على فشله كثيرون، ولم تتبناه إلا شركة إنتاج واحدة، معتبرةً إياه عملاً ترفيهياً صغيراً ومحدوداً، عندما كانت بصدد إنتاج الجزء الأول، ليتحول بعد عرض حلقاته، إلى مسلسل كوميدي ذائع الصيت، ينافس أهم المسلسلات.
تم تصوير المسلسل في ريف اللاذقية، وتحديداً في قرية السمرا التابعة لكسب، في آخر نقطة عند الحدود السورية التركية، التي تحولت فيما بعد، إلى مكان سياحي يقصده الزوار لإلتقاط الصور التذكارية في بيوت الممثلين، وهي عبارة عن بيوت ريفية طينية ذات طراز بسيط ومتواضع.
وكان لللهجة المعتمدة في العمل وقعها الخاص، فأعطت للمسلسل رونقاً مميزاً عن باقي الأعمال الدرامية التي صورت.
وشكّل الثنائي الأشهر الممثل باسم ياخور والراحل نضال سيجري، ومجموعة من نجوم الدراما السورية، منهم فادي صبيح والراحل زهير رمضان وآمال سعد الدين وتولاي هارون وجرجس جبارة، إضافة كبيرة للعمل.

المسلسل يتضمن تكهنات من الواقع

بعد تدقيق في أحداث المسلسل بجزأيه، يمكن رصد العديد من أحداث العمل ومقاربتها مع الواقع، وفي هذا السياق لا بد من تسليط الضوء على نجمي العمل مختار الضيعة (زهير رمضان)، والشاب "سلنغو" (فادي صبيح) الراغب في خطوبة ابنة المختار، في حين أن الأخير لا يرغب بارتباط إبنته بهذا الشاب إلا بعد حصوله على شهادة الثانوية العامة، على الرغم من توسط أهل القرية لتتم خطوبتها، وأثناء ذلك تدور قصص من الحب العذري بين الشاب والفتاة، وجولات من ملاحقة المختار لهما.
هذا الدور تابعه الناس بإعجاب، إذ يصارع الشاب "سلنغو" المختار أملاً بانتزاع وظيفة المختار منه بانتخابات القرية، ويفشل.
وإن عدنا للواقع، لا بد من استذكار ما أثارته المعركة الانتخابية للفوز بمنصب نقيب الفنانين الذي كان يشغله الراحل زهير رمضان، إذ شكل الممثل فادي صبيح منافساً شرساً لتولي منصب نقيب الفنانين من الراحل زهير رمضان، ولم يستطع، قبل أن يتوفى رمضان في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2021.

كما أن المسلسل تطرق إلى موضوع رفع الدعم، وتصنيف العائلات بحسب قدرتهم الشرائية، حيث أن المسلسل، تطرق في إحدى الحلقات، إلى إرسال الحكومة مبعوثاً للوقوف على أحوال الأهالي، وفرز من يستحق أن تمنحه ليترات عديدة من مادة المازوت، الأمر الذي لم يكن وارداً قبل الحرب لتوفر المادة حينها وبكثرة.

وجاءت نهاية العمل صادمة للجمهور، تتطابق مع ما يعيشه البلد، من مأساة الحرب والنزاع المسلح إبتداء من العام 2011، حيث ظهرت القرية في ختام المسلسل، فارغة من السكان، وذلك بعد استنشاقهم مواد سامة، وموت جميع أهل القرية، بينما تعصف الرياح بالبيوت، وتنتزع النوافذ، وتضرب القرية، هذا المشهد لا يمكن أن يتخيل المواطن السوري حدوثه قبل العام 2011، حين كان ينعم بلده بالأمان، لكنه بات مشهداً مألوفاً لكثير من القرى الفارغة من سكانها، بعد نزوحهم منها، تفادياً لخطر الحرب الدائرة.

ختاماً، الدراما السورية هي ولادة للمواهب، وقد شهدنا ذلك على مدى سنوات، وكان آخرها في الموسم الرمضاني الماضي، تحديداً في مسلسل "مع وقف التنفيذ" ومسلسل "كسر عضم".
بعد كل هذا النجاح، هل سيبصر الجزء ثالث من المسلسل النور؟ أم أن ما بعد الصعود إلا الهبوط؟