إنطلق من لبنان إلى العالمية، وكان إسمه أولى بطاقات التعريف عن وطنه، لا بل عن تراثه أيضاً، من إهدن إلى بعلبك، إلى المحافل العالمية. تعلم من ملاحظات بيتهوفن، وسعى وراء قيادة الأوركسترا العالمية، وتعلم خبايا المهنة وأسرارها، تألق بصمت، بروح هادئة، وبقلب وعقل يضجان بروح الموسيقى، وكانت أنامله الساحرة ترسم ألحاناً من دون صوت، وتكتب فناً خلده التاريخ، ليبقى في ذاكرة الوطن.
إنه الدكتور المايسترو لبنان بعلبكي، الذي خصّ موقع "الفن" بمقابلة شيّقة، ننشر لكم اليوم الجزء الأول منها.

هل تزعجك فكرة أن إسمك "لبنان"؟ أم أنك تشعر بالفخر لأنك تحمل إسم وطنك لبنان، ومن عائلة بعلبكي؟

طبعاً لا يزعجني الأمر، فهذا إسمي الذي تربيت عليه، ولدي معه ذكريات جميلة، أفتخر فيه كإسم، وبما يمثله لناحية ما ارتبط به إسم لبنان لآلاف السنين، ولكني لا أفتخر بلبنان الذي عطونا إياه الآن، تحديداً في آخر 40 عاماً.

في أي عمر أدركت أنك تحمل إسم وطنك؟ وهناك واجب يقع على عاتقك؟

منذ أن بدأت أعرف إسمي، الذي كان يلاقي عند الناس ردات فعل غريبة في بعض الأحيان، فكنت طفلاً بعمر الـ 5-6 سنوات، حين كانوا يسألوني عن إسمي وأجيبهم لبنان، وفي معظم الأحيان كانت ردة فعل الناس بسؤال "ماذا؟"، فكان الإسم يخلق مفاجأة في مكان ما، وهذا الأمر جعلني أنتبه إلى أن إسمي يشكل حالة لدى الناس.

هل عرفت يوماً لماذا أطلق عليك أهلك إسم لبنان؟

هناك قصة متعلقة بوالدي الشاعر والنحات والرسام الراحل عبد الحميد بعلبكي، ولكن من غير المناسب أن يتم تداولها إعلامياً. والدي كان رجلاً وطنياً، ومتعلقاً جداً بهذا البلد، ودرّس أجيالاً كثيرة، في الجامعة اللبنانية، وذلك لحوالى 33 عاماً. وفي الفترة التي خلقت فيها في العام 1981، كان لبنان على مفترق طرق، إما أن يكون أو لا يكون.

كم أثر عليك أن تكون الفنانة سمية بعلبكي صاحبة الصوت الماسي شقيقتك؟

سمية لها دور كبير في حياتي، فهي فتحت المسرح وكواليسه أمامي منذ صغري، وهذا الأمر أوجد بيئة ملائمة وجميلة بالنسبة لي.

بعد أن أصبحت مايسترو، هل وجهت ملاحظات لسمية؟

هي ليست ملاحظات، نحن ندخل أكثر في نقاشات فنية، وهناك إنسجام كبير بيننا لناحية النمط الموسيقي والذوق الموسيقي أيضاً، وهذا الإنسجام هو حالة مميزة بالنسبة لنا.

هل تشعر أن من يحافظ على مستوى الأغنية الشعبية لا يصل إلى نجومية كبيرة ولا يتمكن منجمع الكثير من المال؟

صحيح، كانت هناك حالة معينة في الفترة التي إنطلقت فيها سمية في أواخر التسعينيات وبداية العام 2000، فإما أن يدخل الفنان في تلك الموجة أو لا، كانت موجة مطاعم، وموجة شركات إنتاج تحكم على الفنان بالعمل بطريقة معينة، وأن يغني في أماكن معينة، كانت هناك ظروف غير متعلقة بنوع الأغاني، وهنا يصبح الموضوع شخصياً، وإيماناً برسالة هذا الفنان، وبحقيقة فنه، فالفن فن، والأمور الأخرى لا علاقة لنا بها.

هل بإمكاننا أن نطلق لقب "مايسترو" على أي شخص؟ أم يجب أن يمتلك دراسة وثقافة وخبرة معينة؟

يجب أن يمتلك دراسة، وهناك العديد من الجامعات في الخارج متخصصة في هذا المجال، وهو من أصعب المجالات في الجامعات الأوروبية، الأوركسترا هي علم لا يمكن لشخص أن يدخل هذا المجال بالتجربة أو بالفطرة، لأن هناك علماً موسيقياً يجب أن يحضر قبل كل شيء.

هل نتحدث هنا عن تقنيات؟

بالطبع، هناك تقنيات، ليست عبارة عن تحريك اليدين، هذا الجزء هو الأخير من معظم العمل، ولكن يجب الإلمام بكل العلوم والرؤية الموسيقية، فمثلاً بالنسبة لإخراج الأفلام، أي شخص قد يرغب بالإخراج إن كانت لديه هذه الموهبة، ولكن إذا كان لا يعرف كيف يحرك الكاميرا، وكيف يجب أن يقف المصور، والكادر والأداء التمثيلي، وكيف يجب أن تكون الإضاءة، لا يمكن أن يكون مخرجاً حقيقياً، وهذا الأمر مشابه لعمل قائد الأوركسترا، الذي يجب أن يكون لديه إلمام بهذه الأمور، وبشكل أدق، فإن المخرج لا يقوم بأي عمل بيده، هو لا يصور ولا يكتب ولا يمثل، بل يجمع هذه العناصر معاً، ويضع رؤيته الخاصة، كذلك الأمر بالنسبة لقائد الأوركسترا.

حضرتُ حفلاً للأوركسترا الفيلهارمونية وهي تعزف بقيادة الدكتور الراحل وليد غلمية، وحفلاً آخر للأوركسترا نفسها وهي تعزف لخوسيه كاريكاس في بعلبك، فلاحظت فرقاً في العزف، هلهناك إحساس معيّن يعكسه قائد الأوركسترا على أداء العازفين؟

من الناحية الأولى، قائد الأوركسترا يعكس روحه على الفرقة، ومن الناحية الثانية، هو يعكس عمقه وعمق الرؤية الموسيقية، وهذه الأمور تظهر في نتيجة العمل الموسيقي الذي يتلقاه الجمهور، وإلى جانب الإحساس، كلما زادت الحرفية في بناء الرؤية الموسيقية، من خلال التمارين، يصل المايسترو إلى النتيجة التي يريدها، والمقبولة للسمع، وهنا يبدأ الشعور بالفرق بين قائد أوركسترا وآخر، والفرق ليس أن أحدهما جيد والآخر لا، وهنا يدخل الذوق الموسيقي للجمهور، الذي يجد نفسه منسجماً مع مايسترو أكثر من مايسترو آخر.
إضافة إلى ذلك، علينا هنا أن نتبع المدرسة التي يعتمدها قائد الأوركسترا، فلكل منهم مدرسة ينتهجها، تختلف التقنيات، وهناك العديد من قادة الأوركسترا الناجحين، وهم عباقرة عبر التاريخ، وكل شخص منهم يملك لوناً، ورؤية مختلفة، تماماً مثلما يبني المخرج رؤيا للعمل الذين يكون بين يديه. التعرف على الموسيقى الكلاسيكية في مجتمعنا، ما زال محصوراً في طبقة نخبوية، تشمل الأشخاص الذين ينجذبون لهذا النوع الموسيقي، مع العلم أننا مازلنا نحاول إستقطاب عدد أكبر من الناس في لبنان إلى الموسيقى الكلاسيكية، وزدنا عددهم في السنوات الأخيرة، إذ إن معظم الأشخاص الذين يتواجدون لأول مرة في حفلاتنا، يظهرون مجدداً في معظم الحفلات.

لماذا قادة الأوركسترا الذين يقدمون الموسيقى العصرية يصلون إلى الناس بشكل أكبر، من الذين يقدمون الموسيقى الكلاسيكية؟

الأعمال الكلاسيكية تحتاج إلى تحضير معين، وتراكم سنوات من الخبرة، وإلى معرفة أكثر في هذا المجال، فنرى اليوم أن المايسترو العالمي أندري ريو نجح من خلال وضع الموسيقى الكلاسيكية في إطار إحتفالي أكثر، من خلال الملابس والإضاءة، والإضافات العامة والمعروفة، وهذا الأسلوب أنا إعتمدته في مهرجانات إهدن، حين قدمنا موسيقى الأفلام التي هي مشابهة للموسيقى الكلاسيكية، وإستخدمنا الإضاءة، إضافة إلى شاشة كبيرة، مع ممثلين وراقصين على المسرح، فتكون الأجواء قريبة من الناس من خلال جو تفاعلي، ويتقبلونها، والإقبال كان كبيراً، حتىأننا قدمنا العرض لعامين متتاليين.

لماذا هناك نكهة خاصة لمهرجانات إهدن؟

لأنها إهدن، وأهلها كرماء جداً، ويجعلون الشخص يشعر وكأنه منهم. عندما كنت أتوجه إلى البروفات، كنت أشعر وكأنني أمتلك منزلاً في إهدن، التي هي مدينة جميلة جداً، والمكان الذي يقام فيه المهرجان ساحر، خصوصاً الخلفية المليئة بأشجار الأرز، ونسمة الهواء الجميلة.

بين إهدن وبعلبك مدينة الشمس، أي منهما تمتلك سحراً أكبر؟

بعلبك لديها طابع مختلف لأنها مدينة تاريخية، القلعة وحدها هي من أهم الآثار الرومانية المحافظ عليها الموجودة في العالم، وكانت ممراً إلزامياً لطريق التجارة العالمية، بالإضافة إلى الفنانين الذين وقفوا على مسرح قلعة بعلبك، كل ذلك يعطيها سحراً مختلفاً.

هل تابعت الأعمال التي قدمت على مسرح مهرجانات بعلبك؟

طبعاً.

الأخوان فريد وماهر الصباغ عرضا مسرحيتهما "من أيام صلاح الدين" في بعلبك بموسيقى حيّة، هل شاهدتها؟

لم أشاهدها بكل صراحة.

أنت أيضاً عملت مع الموسيقى الحية في بعلبك، في عرض مسرحية "إلا إذا" للكاتب والمخرج والممثل جورج خباز، يقال إن الهواء يؤثر على هذه الموسيقى، إذا كان هذا الأمر صحيحاً، كيف كان الأخوان الرحباني يقدمان أعمالهما في بعلبك؟

لقد تم تغيير موقع المهرجان، وانتقل من مكان إلى آخر، في السابق كانوا يقدمون أعمالهم تحت أعمدة القلعة، وبعدها داخل معبد "بخوس"، ثم إنتقلوا إلى خارج هذين المكانين، وذلك لحماية الآثار إلى حد ما، في حال إضطر أحدهم إلى الخروج من مكان المهرجان.
الآن بالنسبة للصعوبات التي قد تواجهنا، فهي متعلقة بالصوت لأنه إلى جانب المسرح من ناحية واحدة، فهناك حائط ضخم، وهذا الأمر يؤثرعلى الصوت، ويحدث ترددات صوتية.

كيف واجهت الأمر؟

مهندسو الصوت الذين كانوا موجودين لديهم الخبرة الكافية للتعامل مع مثل هذه الأمور.

هل أعجبتك حفلات مهرجانات بعلبك التي أحيتها مواهب شابة صاعدة؟

لم أتمكن من مشاهدتها بحكم سفري، ولكن ما رأيته على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي، هو أن معظم الأصداء كانت متناقضة، مع أن هناك البعض من أصدقائي بينهم، إلا أن هناك ثغرة ما لم أكتشفها لأنني لم أشاهد هذه الحفلات، وأعتقد أن هناك العديد من الأعمال في بعلبك حصدت مجداً وضجة أكثر.