تكتب بنبض قلبها، فتغدق بمشاعرها الصادقة على الورق، لترسم لوحة تجسد أفكارها.

. تكتب وتكتب وتكتب، ولا تمل، فهي التي عشقت الكلمة منذ نعومة أظفارها، بادلتها الكلمة هذا الحب، فأصبحت صديقتها الصدوقة، تؤنس وحدتها، وتفهمها قبل أن تحمل القلم. هما توأم، ودائماً معاً في السراء والضراء.
ماري تريز فرّا، توأم الكلمة الصادقة، الأديبة والكاتبة التي في رصيدها ستة مؤلفات، هي "لبنان حِكم وعِبر" الصادر عام 2014، "همسات عابرة سبيل" 2015، "محطات من قطار الزمن" 2017، "تغريدات الصبا" 2019 عن زحلة وأحيائها وكنائسها، "منجل الحصاد" 2020 عن فيروس كورونا، و"بيروت يا عشقي" الصادر حديثاً، عن إنفجار مرفأ بيروت، إضافة إلى أن كتابها "غزل الأيام" جاهز أيضاً ولم تقرر بعد موعد طباعته.
تم تكريمها في زحلة من التجمع الوطني للثقافة والبيئة والتراث برئاسة أنطوان أبو جودة ومجلس قضاء زحلة برئاسة الدكتورة سلوى سعادة، إذ كان حفل تكريم لشعراء وأدباء البقاع في العام 2015، كذلك تم تكريمها في الأمسية الشعرية التي أقامتها المكتبة العامة في كنيسة مار الياس في الخنشارة، وشارك حينها في الأمسية الشاعر الراحل وليم حسواني 2019.
ماري تريز فرّا، تحل ضيفة عزيزة على موقع "الفن" في هذا الحوار.

إبداعك في الكتابة يجعلنا نتساءل عن سر عشقك للكلمة، كيف بدأت حكايتك معها؟
أنا أحب الكلمة واللحن والتعاطي مع الأحرف، أحببت الكتابة منذ صغري، حين كنا في منزلنا في زحلة، وكبرت معي هذه الموهبة، إلى أن أصبح عمري حوالى الـ14 عاماً، فصرت أكتب مقالات في جريدة "الأحرار"، أعبر فيها عما يدور في خاطري، ومع الوقت، تابعت دراستي، وتخصصت في الصحافة في مصر، وبعدها تزوجت ورزقت بأربع بنات، وهن دكتورة في الترجمة الفورية، محامية وشاعرة باللغة الفرنسية، دكتورة في الصيدلة وطبيبة تخرجت من جامعة هارفارد.

لمن تكتبين؟
أكتب لنفسي، لفرحي الذاتي، أنا أحرم نفسي من أشياء كثيرة لأكتب وأطبع كتباً فقط.

كتابك "منجل الحصاد" الذي يتحدث عن أزمة فيروس كورونا وتداعياتها، هل هو فقط لتوثيق المعلومات؟ أم أنه يحمل رسالة أيضاً؟
الكتاب فيه معلومات ورسالة، وبحسب ما وصفه راعي ​أبرشية زحلة و​البقاع والفرزل للروم الملكيين الكاثوليك ​المطران عصام درويش، الذي كتب كلمة في آخر الكتاب، بأنه كتاب للتاريخ، لأني أخبر فيه كيف أصبح العالم كله واحداً، والألم واحداً، الطيران توقف في العالم كله، والسفن أيضاً، فرغت الساحات والأمكنة من الناس، فأصبح الشخص إذا أراد أن يكلم جاره يطل عليه من النافذة، وعدنا إلى الحب العذري مثل أيام عنتر وعبلة، وروميو وجولييت، إنقطع الناس عن بعضهم البعض.
في العام 1918، وصل فيروس الكوليرا إلى لبنان، ووضع الناس الكمامات على وجوههم، لكنهم كانوا يمشون جنباً إلى جنب على الطريق، لكن في زمن فيروس كورونا، فلا لمس ولا همس، ولا أية حركة أو عبارة للآخر.
أما عن رسالة الكتاب، فهي أنه رغم أن الإنسان توصل إلى إختراع الكثير من الأشياء، من أهمها الطيران والهاتف الخلوي، إلا أن الله قال للناس "أنا الخالق"، وأنا أعتبر أن فيروس كورونا هو إنذار من الله، مثلما حصل على أيام "سدوم وعمورة".

ولكن في المقابل فيروس كورونا أعاد لم شمل العائلة التي أصبحت مجتمعة أكثر.
أصبحت العائلة مجموعة، وأصبح هناك طلاق وضرب كثيراً، فبسبب كثرة جلوس الناس مع بعضهم البعض في المنزل، أصبح كل واحد منهم يرى عيوب الآخر، وضاق خلق الإنسان، ولم يعد يستطيع تحمل نفسه ولا تحمل أولاده، ولا حتى طيفه إذ مر في الغرفة، هناك من كل الحالات التي مر بها الناس. ولولا التواصل الإجتماعي، والأخبار عبر المحطات التلفزيونية، لكان الناس إنقطعوا عن العالم الخارجي، وأصبح الوضع الآن مرعباً كثيراً، لأن عدد الوفيات بسبب فيروس كورونا تزايد، وأصبح هناك غلاء كثيراً، والذي بسببه لم يعد الفقير يستطيع أن يشتري مواد التنظيف، ما يزيد من إنتشار الفيروس، لأن النظافة هي أساس في محاربة هذا الوباء.

هل لا زال الناس يقرأون كتباً في هذه الأيام؟
المجلات أغلقت، والمطابع فرغت، والورق أصبح نادراً ولم تعد له قيمة اليوم، نحن فقرنا بطريقة ليس لها مثيل، القراءة أصبحت نادرة بسبب غلاء المعيشة، فالرفاهية تعطيك الوقت لكل شيء، أما الفقر والضيقة فيجعلانك تمر مرور الكرام على الكثير من الأشياء. نحن لم نفقر بسببنا، بل بسبب حكامنا، فهم الذين فقّرونا، كانوا يرديون أن يعملوا لنا ضمن الشيخوخة، سرقوا أموالنا التي خبأناها للشيخوخة، بعد أن حرمنا أنفسنا من أشياء كثيرة، لنعيش بكرامتنا.

ألست خائفة كونك تنفقين أموال الشيخوخة على طباعة كتبك، خصوصاً أنه في ظل الأوضاع الصعبة لا يمكنك القيام بحفل توقيع لتستفيدي أقله معنوياً؟
أنا أكتب وأكتب، ولست أدري من سيقرأ، وأترك هذا للتاريخ ولبناتي من بعدي، الكتابة هي هوس ولا تستطيع أن تتوقف عنها، والكلمة هي أحياناً أحد من السيف.

ولكن هل ما زالت الكلمة مؤثرة في هذه الأيام؟ إذ كانت في الماضي تغيّر أنظمة وتسقط عروشاً.
الكلمة تؤثر في الأشخاص الذين لديهم إحساس، أما الذي يحب جيبه ويبيع ربّه، فلا تؤثر به حتى ضربة السيف، وأنا مقهورة بسبب الشعب الجائع الذي كان يتظاهر مؤخراً في طرابلس، وفي المقابل هناك من يقول إن بين المتظاهرين طابوراً خامساً، صحيح ربما هناك مدسوسون، لكن هناك موجوعين حقاً. أين هم زعماء ورجال الأعمال وأثرياء المدينة لا يساعدون الشعب؟ طرابلس فيها من أغنياء العالم.

أنتِ إبنة زحلة، ما علاقتك ببيروت التي كتبتِ عنها كتابك الجديد "بيروت يا عشقي" الصادر حديثاً؟
أنا تلميذة مدرسة العائلة المقدسة الفرنسية Sainte Famille Francaise في الجميزة، تربيت في بيروت، وكنت أقيم فيها خلال فصل الشتاء، وفي زحلة خلال فصل الصيف، وأعرفها جيداً، وأشعر بكل زاوية فيها، من مدرسة الفرير، إلى مدرسة الثلاثة أقمار، إلى كنيسة مار مطانيوس، الأشرفية، العكاوي، مار مخايل، الجعيتاوي، الجميزة، كلها ذكرتها في الكتاب وأخبرت ما حل بها، ووثقتها بصور، منها صور الممرضة التي أنقذت حياة ثلاثة أطفال، والطفلة ألكسندرا نجار، والطالب إلياس خوري، والمصمم إيلي صعب الذي رغم تضرر منزله ودار أزيائه، عاد وتحدى الكون وأقام عرض أزياء في فاريا ليقول إن بيروت لا تموت.

كونك تحملين شهادة في الصحافة، هل كتبتِ هذا الكتاب بحسك الصحفي أم بحسك الأدبي؟
كتبته بحسي الأدبي، هناك الكثير من الصحافيين الذين هم أهم مني بكثير في الصحافة، ولكنهم لا يستطيعون أن يحبكوا الكلام، فحبكة الكلام تأتيني إلهاماً من الله، على شكل لمعة، وأدونها على الورق.

كتبتِ قصيدة "حبيبتي بيروت"، التي لحنتها الملحنة والشاعرة مارينا جحا، ويقول مطلعها "كيف أبكيكي يا بيروت"، وغنتها المطربة ميشلين خليفة، ماذا أضافت لك ميشلين من خلال غنائها كلماتك؟ أم أنتِ التي أضفتِ إليها؟
ميشلين عملاقة كبيرة وأسطورية، هناك من قال لي إنها كانت متوقفة عن الغناء في هذه الفترة، ولكن كلمتي حركتها، فطلبتَها وأحبت أن تغنيها وغرّدت فيها. ميشلين لديها تاريخها، وأنا لا أستطيع أن أضيف إليها شيئاً.
أنا وصفت بالقصيدة ما حصل في بيروت بكلام يلامس القلب، فتشعر خلال غناء ميشلين بأن الدمعة في حنجرتها، واللحن كان رائعاً من مارينا، ثلاثة "م" صنعن هذه الأغنية، وهن ميشلين وماري تريز ومارينا.

ماذا تخبرينا عن جلسات الشعر التي كانت تقيمها المؤرخة والشاعرة الراحلة مي مر والتي كنتِ تشاركين فيها، وماذا عن جلسات الشعر التي كنتِ تقيمينها؟
كانت الأديبة والمؤرخة مي مر تجمع أهل القلم والكلمة والصحافة كل يوم ثلاثاء في منزلها، على سفرة عامرة وبجلسات شعر رائعة، وكان يحضر الشاعر سعيد عقل والسفير فؤاد الترك والشاعر هنري زغيب، وبدوري كنت أجمعهم كل يوم جمعة ضمن حلقة شعرية، وكنا نتبارى بسوق عكاظ للشعر، وكان الترك حافظاً كل أشعار سعيد عقل، ويلقيها بصوته الرخوم، كان صوته رائعاً.

الشاعر عادة يعطي الأمل للناس من خلال كلمته، هل لا زال لديك أمل بخلاصنا من الأزمات المتلاحقة التي تعصف بلبنان واللبنانيين؟
أنا فقدت الأمل، لأنه حين وقعت روما وبكت بسبب الوباء، جاء المصمم العظيم أرماني وقال لها "لا أريدك أن تبكي"، ونثر المال على روما، وقال لها "انهضي"، أما في لبنان، فكل الأخبار تقول "إننا سُرقنا"، لذلك حجزوا أموالنا، وما من مسؤول أعطى الشعب واحداً بالمئة من فائدة أمواله، وقال "بيروت لا تبكي، بيروت قفي على رجليك، بيروت أنتِ أم الشرائع، أنتِ أم العنفوان، أنتِ التي أعطيتِ الوجه الجميل للشرق كله، أنتِ لؤلؤة الشرق، انهضي ولا تتبهدلي"، جعلونا نشحذ على أبواب العرب الذين صدرنا لهم الحرف، وعلى أبواب الأجانب الذين أرسلنا لهم آلاف الأشخاص من لبنان وأعطيناهم إسمنا. سعيد عقل من لبنان، جبران خليل جبران كذلك، أدباؤنا رفعوا في مصر الشعار والآية، حين كانت اللغة العربية مندثرة وممحوة، هم الذين نهضوا بها. لبنان فيه أول مطبعة في العالم العربي في دير مار مطانيوس قزحيا، وأول مطبعة للحرف العربي في الشرق في دير مار يوحنا الخنشارة، ولا تزال المطابع موجودة، هم الذين صنعوا الحرف، أيجوز أن نُذل هذا الذل؟ نقف أمام أبواب المصارف لنشحذ مالنا؟ أين هو الأمل؟ أملي هو الرب وأنتظر عجيبة منه، ليس لدي أمل في المسؤولين الموجودين حالياً، ولا حتى بصيص أمل، هم لا يشعرون، ماذا تفعل لكي تشعروا؟، قال لنا الرب "لا تعبد ربين أنا والمال"، هم عبدوا المال وتركونا، نحن أولاد الأرز، الأرزة التي لا تنحني والتي هي شعار للعالم كله، أيجوز أن يحدث لنا ما حدث؟ تأتينا مساعدات يخفونها، ومنها أهملوها فأتلفت، أتمنى أن يرسل لنا الله الفرج، وأن يركّع الذين ذلونا.