تعتبر نهى الخطيب سعادة رائدة في التقديم التلفزيوني والتمثيل معاً، أضفت رزانتها وملامحها الهادئة وعذوبة صوتها العميق بريقاً آسراً على ثقافتها وذكائها، فجعلا منها إسماً محفوراً للأبد في ذاكرة الدراما والتلفزيون وعبق لبنان الجميل.

كان لديها نعمة اللفظ الصحيح، والنطق السليم. وساعدتها معلوماتها الثرية بلغة الضادّ في النجاح، ما فرض وجودها بكلّ ثقة، وأدارت ذلك من خلال اللعب على الوتر الفني بحنوّ ودلال وقراءة وافية للدور ولإعداد ما ستقوله.

لم تتخرّج نهى الخطيب سعادة من معهد التمثيل، ولكننا ولمجرّد متابعتها وقراءة دورها حتى نتعلم منها الكثير وعلى أكثر من صعيد في الإعلام وأصول التقديم، وفي التمثيل وعفوية التواصل، وببساطة يعود السبب إلى ما تملكه من القدرة على الإقناع.

لم تسدّ فراغات البثّ بالثرثرة، ولم تلفت النظر بالصراخ وسرقة الكاميرا كما هو متعارف عليه حالياً وللأسف. تنطق مفردات الكلام بلغة سليمة، تستخدم نفسها بمعرفة أصول مخارج الحروف شهيقاً وزفيراً، وهذه حالة رغم ضرورتها تجهلها غالبية من يقدّم البرامج، ومن يمثّل في هذا الزمن. وربما إتقانها لغة الضادّ مكّنها من اكتشاف مواهبها وعفويتها، وصالحها مع حضورها.

البدايات

نهى الخطيب سعادة من مواليد 5 آذار/مارس عام 1944، حصلت على شهادة الفلسفة عام 1961، وإلتحقت في جامعة اليسوعية لإستكمال دراستها في الأدب العربي. منذ نعومة أظافرها، حلمت بالتمثيل وكانت تهوى مشاهدة الأفلام السينمائية. كانت من الأوائل في مدرسة الليسيه، وكانت السباقة إلى ميدان التلفزيون في بداية عهده، نادتها الأضواء لتنضم إلى عائلة تلفزيون لبنان في أوائل الستينيات.

ونجحت في تحقيق حلمها بالتمثيل وأول مسلسل تلفزيوني اشتركت فيه "النغم الحائر" إلى جانب إحسان صادق في أواخر عام 1962، وتلاه مباشرة مسلسل "الخديعة" إخراج إيلي سعادة، وبلغ أجرها عنه في تلك الحقبة 200 ليرة، وكان ذلك في عام 1970.

بدأت نهى الخطيب سعادة حياتها العملية من تلفزيون لبنان في "القناة 11 " بالحازمية عام 1962 وعملت في ربط الفقرات، ثم قدمت أهم البرامج الحوارية المنوّعة والفنية، ونجحت كمذيعة ربط برامج وكممثلة تجيد أداء الأدوار الصعبة.

عُرفت بشخصيتها الجادة ووقارها لكنها رغم ذلك غامرت وكانت تجربتها الأولى مع ظريف لبنان نجيب حنكش، وشاركت الراحل في تقديم برامج حوارية فنية فأبرزت ثقلها في التقديم كما في طرح المواضيع الفنية والثقافية والمنوّعات الراقصة والأغاني، وكانت لافتة سرعة بديهتها في استيعاب النكات والأجواء الضاحكة التي يفرضها نجيب حنكش، وشكّلا معاً في تلك الفترة ثنائياً محبباً لقلوب المشاهدين، ولمتعة "الفرجة"، والمعلومة الهادفة.

زواجها وأعمالها التمثيلية

تزوّجت نهى الخطيب سعادة سنة 1965 من المخرج الكبير إيلي سعادة في زواج مختلط، وتمسكت بنبذ التعصب على رغم كل أشكال الطائفية التي شهدتها الحرب في لبنان، فجسدت نموذجاً للزمن الجميل والانفتاح وشكلا ثنائياً فنياً محبّباً، وأنجبت منه ابنتين رندا ورنا.

علّمها سعادة أصول الوقوف أمام الكاميرا حينما وجد فيها خامة مطواعة، وأخذها من التقديم إلى التمثيل من دون أن يفرضها. وهي بذكاء الباحثة اكتشفت الفرق بين هذا وذاك فظلّت أمينة لتقديم البرامج والحوارات المنوّعة والثقافية والتمثيل بمختلف أدواره وشخوصه.

غالبية ما قدّمته على صعيد الدراما من إخراج زوجها إيلي سعادة، منها "الخديعة" مع عبد المجيد مجذوب "الجوال"، و"حتى نلتقي"، و"النهر" مع سمير شمص، و"لمن تغنّي الطيور؟"، الذي قدّم "جنريك العمل له الفنان سامي كلارك، و"غرباء"، و"البخلاء.

لم تقتنع نهى الخطيب سعادة باللهجة المحلية بالمطلق، كانت متعصّبة للأعمال المتحدّثة بحوارات اللغة الفصحى إلى حين تم إنتاج أوّل مسلسل لبناني كمغامرة لم تلقَ التشجيع خوفاً من فشلها. ولكون حوارات العمل باللهجة المحلية، وهو "رمال بين الأصابع"، وقد رُفض إنتاجه من قبل «قناة 11» آنذاك، فتم إنتاجه في الأردن، قصة وسيناريو وحوار وليد أنيس خاطر وجورج خاطر ، بطولة إحسان صادق، وسميرة بارودي، ومن إخراج حسيب يوسف، وتم تصويره في استوديو التلفزيون الأردني، وعرض للمرّة الأولى في عمّان عام 1978، ومثّل فيه عدد كبير من الممثلين اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين والأردنيين. وحينما نال جائزة أفضل قصة وسيناريو وحوار من مهرجان إيران، سعت "قناة 11" بكلّ ما تملك كي تعرضه.

مع لمياء فغالي

اللافت أن القديرة الراحلة لمياء فغالي شاركتها غالبية مسلسلاتها وقد أبدعت في تجسيد دور أمها، وهذا أعطاها ثقة الوقوف والتواصل والتمثيل، ومن مميزاتها إتقان القراءة والحفظ السريع، ويقال إنها كانت تحفظ جميع أدوار زملائها وحواراتهم، و تعمل على تصحيح اللغة.

أحبّ العمل إلى جانبها كلّ من وقف أمامها، ولم يُسمع منها أو عنها كلمة نابية، وعلاقتها مع الجميع بنيت على محبة متبادلة. واللافت أن لمياء لم تكن مجرّد ممثلة لدور الأم والسلام، بل كانت واعية وفاهمة طبيعة دورها وحضورها ومساحة وجودها. فنانة أثرت الفن وأغنته، وعلّمت كلّ من وقف أمامها أصول الأداء الصحيح.

مرضها

لقّبت نهى الخطيب سعادة بالبرشامة لرقّتها وعذوبتها وسرعة ذوبان المُشاهد في حبّها، وبـ فاتن حمامة لبنان وبنورسة الإعلام

نهى الخطيب سعادة التي غُيّبت قسراً عن الشاشة منذ أكثر من 25 عاماً، عاد اسمها إلى الواجهة مع وفاتها، لتلتحق بركب رفاق ورفيقات صنعوا لحظات خالدة في عالم التلفزيون والدراما، وغادروا دنيانا بصمت، تاركين بصماتهم عبر أرشيف غني وإنتاجات خالدة.

مرض أصابها بالخوف على ما تبقى عندها من ضياع أحلامنا المؤجّلة، لأحلام اغتالت ما تبقى من إنسان يحترم إنسانيته ووطنيته، وقد يغتالها أكثر الجحود والإهمال المتقن من قبل الدولة ومؤسّساتها ووزارة الثقافة وبعض الإعلام.

أيامها الأخيرة ووفاتها

عن عمر ناهز الـ74 عاماً، رحلت نهى الخطيب سعادة في 12 كانون الأول/ديسمبر من عام 2018 ، بعد معاناة مع الألم تسبب به حادث سير تعرضت له في أوائل التسعينيات جعلها مقعدة ولكن لم يستطع النيل من عزيمتها وصبرها وإيمانها، غادرتنا سعادة الإعلامية والممثلة التي ساهمت في صناعة الحقبة الذهبية لتلفزيون لبنان. ابنتاها ندى ورنا بقيتا إلى جانبها طيلة أيام معاناتها، وقبيل أسبوع من وفاتها نُقلت إلى مستشفى رزق في الأشرفية، بعد أن عانت من ضيق في التنفس (التهاب رئوي)، وبقيت على آلات الأوكسيجين تتنفس اصطناعياً طيلة هذه المدة.

وكأن سعادة كانت تعلم برحيلها القريب، فتركت رسالة بخط يدها سلّمتها إلى أحد الأشخاص المقربين من العائلة، طالبة منه تسليمها لابنتيها عندما يحين الوداع.

نهى الخطيب سعادة تحتاج منّا إلى تحية وفاء واحترام وتقدير، ومحبة عارمة لكثرة ما بذرته في حقول الذاكرة. لها منّا تاج التميّز والريادة والعطاء، لها منّا صفحات من ذهب كتبت بعرق الجبين وتعب السنين وأشواك الحنين، لماض كلّما عدنا إليه نتعلّم ونرفع القبعة احتراماً له ولمن عمل فيه.