عبد الله غيثهو "فارس المسرح العربي"، "ملك الفيديو"، "أسد قريش" في فيلم "الرسالة"، و"أدهم الشرقاوي" في فيلم حمل الاسم نفسه، "شلش الحلواني" في "بوابة الحلواني"، "علوان البكري" في "ذئاب الجبل"، هو "عباس الضو" في "المال والبنون"، جسد ببراعة شخصيات لا زالت مطبوعة إلى اليوم في ذاكرتنا، وأغنى أرشيف التلفزيون والسينما بالدرر والروائع.


إبداع تجسد في إنسان،نجم المسرح، وملك الفيديو، ومدرسة في التمثيل حتى أنه صرح في أحد لقاءاته التلفزيونية بأن "أنتوني كوين" بذاته إعترف له بأنه تعلم منه وأنه تفوق عليه في أداء الدور نفسه في فيلم "الرسالة"، الفيلم الأضخم من حيث الإنتاج والإخراج وطاقم العمل والقصة، والذي ما زال حتى اليوم يحكي قصة الإسلام وأخرجه المخرج الراحل مصطفى العقاد.

نشأته
ولدعبد الله غيثفي 28 كانون الثاني/يناير عام 1930، وتوفي في 13 آذار/مارس عام 1993، عن عمر يناهز الـ63 عاماً، بسبب إصابته بالسرطان الذي تم اكتشافه في مراحله الأخيرة.
هو من ريف مصر وبالتحديد فإن مسقط رأسه قرية كفر شلشلمون بمحافظة الشرقية، وتربى في كنف أسرة ميسورة الحال فكانت عائلته تمتلك مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، وعلى عكس النمطية التي كانت سائدة عن أن أهل الأرياف أشخاص بسطاء وتعليمهم محدود، فإن والده كان مثقفاً ويتحدث باللغة الإنجليزية وكان يدرس الطب في لندن ببريطانيا، لكنه عاد إلى وطنه في بدايات الحرب العالمية الأولى ولم يستطع العودة لإكمال دراسته، إذ استدعي لتولي العمودية أو منصب العمدة في القرية، فتزوج وأنجب خمسة أبناء كان أصغرهم عبدالله غيث، وشاء الله أن يتوفاه في سن مبكرة تاركاً عبد الله غيث وأخوته أيتاماً.
كان غيث في طفولته مشاغباً ويهوى الهروب من المدرسة ليحضر الحفلات الصباحية في السينما والمسارح، ونتيجة لذلك لم يتمكن من الحصول سوى على الشهادة الإعدادية ثم الثانوية.
عمل في الزراعة لمدة عشر سنوات ليشرف على أرضه بنفسه، بعدها انتقل إلى القاهرة ليحقق حلمه و عشقه للفن منذ صغره، وقرر الالتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية في عام 1950، وأشرف عليه شقيقه حمدي غيث الذي كان يعمل أستاذاً بالمعهد آنذاك، بعد رجوعه من بعثته بباريس، وكان من بين دفعته الممثل كرم مطاوع والممثلة سناء جميل، وتخرج عام 1954، ليبدأ مشواره في عالم التمثيل من خلال إلتحاقه بالمسرح القومي.

أعمال خالدة
لا يختلف إثنان على أن أهم دور لـ عبد الله غيث في مسيرته الفنية كاملة هو دور أسد قريش، حمزة في الملحمة التاريخية الأشهر على الإطلاق فيلم "الرسالة"، والذي كرس هيبته وأداءه وحرفيته ليتوج نجماً على عرش السينما المصرية والعربية.
وكان الند له في ذلك الوقت النجم العالمي الأميركي "أنتوني كوين"، الذي جسد الدور نفسه لكن في النسخة الأجنبية من الفيلم، وشاءت الظروف أن تصوير الفيلمين كان يتم في التوقيت نفسه وبالديكور نفسه مع اختلاف الممثلين وبعض المجاميع، وقد توقع مخرج ومنتج الفيلم المخرج السوري الراحل مصطفى العقاد أن الممثلين العرب سيحاولون الإستفادة من خبرات الممثلين الأجانب في الفيلم لكن النتيجة كانت مختلفة إذ فوجئ المخرج ببراعة أداء الممثلين العرب، حتى أن "أنتوني كوين" وقف يشاهد تجسيد عبد الله غيث للدور وعلق على أدائه :"لو كان عبد الله غيث في أميركا حالياً لكان له شأن آخر".

أعماله المسرحية
كان عبد الله غيث من أفضل من قدموا المسرح الشعري وكان إلقاؤه مبهراً، وكانت مخارج الحروف لديه ونطقه رائعين ناهيك عن أن الله حباه بحنجرة جعلت صوته رخيماً عميقاً.

حبه للحسين ومنع مسرحيته "الحسين ثائراً"
أوضح إبن عبدالله غيث الذى يحمل كثيراً من ملامح والده أن أباه سماه باسم الحسيني حبًا بحفيد رسول الله، وروت إبنة أخيه في إحدى المقابلات الصحافية ميادة حمدي غيث عن قصة مسرحية "الحسين ثائرًا" قائلة :" عمي أدى دور الحسين فى المسرحية ، وكان يعتبر هذا الدور أهم الأدوار في حياته ، ولكن للأسف لم يوافق الأزهر على عرضها بسبب رفضه لتجسيد شخصيات الصحابة".
وتابعت: "كنت أحضر البروفات، وحضرت في اليوم الذي جاء فيه وفد الأزهر ليشاهد العرض ويصدر حكمه سواء بعرض المسرحية أو منعها ، وكنت أجلس خلفهم في الصف، وجميعهم بلا استثناء كانوا يبكون بالدموع طوال عرض المسرحية تأثرًا بأداء عمي، ولكنهم أصدروا حكمهم بعدم عرضها ".
وقالت ابنة شقيق عبدالله غيث متأثرة: "عمي كان لديه استعداد لاعتزال الفن نهائيًا لو اشترط الأزهر ذلك مقابل السماح بعرض المسرحية، وأصيب بحالة حزن واكتئاب شديدة بسبب منعها".
وكان عبدالله غيث انتقائياً في أدواره، ولا يقبل أي دور يعرض عليه إلا بعد أن يقتنع به ويدرسه جيداً، وهذا كان سبباً ليصبح أحد أهم نجوم المسرح العربي، فقد رشحه عميد المسرح الممثل القدير يوسف وهبي ليخلفه على المسرح في أداء دوره في مسرحية "الوزير العاشق"، ومن شدة براعته في تجسيد الشخصية بكت السيدة جيهان السادات عندما مات البطل في العرض.
ومن أكثر أعماله البارزة في المسرح دوره في مسرحية "الحسين ثائرا"، و"الفتى مهران" و"زيارة السيدة العجوز"، و"الوزير العاشق".

عمدة من دون منصب
ولم يكن عبد الله غيث يحلم سوى بالزراعة والفن فقط، فقد كان عاشقاً لريف بلده ولم يكن يرتاح إلا عندما يذهب إلى أرضه ويرتدي الجلباب الفلاحي ويجلس على المصطبة على شاطئ الترعة بعيداً عن الشكليات السخيفة وصخب حياة المدينة والأضواء، وكان يحرص على التردد مرتين أسبوعياً إلى القرية لرؤية عائلته وأصدقائه وجيرانه ويستمع إلى مشاكلهم وأمانيهم، ولذلك أحبوه ووثقوا به ورشحوه لتولي منصب العمدة بعد والده وأخيه الأكبر وعندما وافق مبدئياً على المنصب، انشغل بفنه ما دعاه لترك العمودية لابن عمه وبقي مسانداً له، أما هو فكان يمكن أن نسميه عمدة الظل ولو من دون منصب إذ إنه كان حاضراً دائماً لحل المشاكل والاجتماع بأهل قريته.

أفلامه
لم يشارك إلا في عدد قليل من الأفلام على الرغم من الرصيد الفني للفنان عبدالله غيث المسرحي، والسبب هو عدم استعداده لتقديم أية تنازلات فظل يمارس الفن بروح الهواية ولم يقدر على منافسته أحد في نوعية الأدوار التي يختارها.
وكان أشهرها أفلامه آدهم الشرقاوي و"حكاية من بلدنا" و"السمان والخريف" و"جفت الأمطار" و"الحرام" وكان لفيلم " الرسالة " العالمي وضع خاص.

أدواره التلفزيونية
قدم عبد الله غيث مسلسلات رائعة لا تنسى ولقب على إثرها بملك الفيديو وهي "الصبر" و"الثعلب" و"المال والبنون" و"محمد رسول الله" و"الحرية" و"الكبرياء تليق بالفرسان" وآخرها "ذئاب الجبل".

زواج مبكر
أحب عبد الله غيث إبنة خالته، وتزوجها في سن مبكرة إذ لم يكن يتجازو سنه الـ18 عاماً، ورافقته طيلة حياته ونتج عن هذا الزواج ثلاثة أولاد هم أدهم، الحسيني وعبلة، وقد كان عبدالله غيث يعشق الحياة الأسرية ويبتعد عن الحياة الفنية الصاخبة عكس الكثيرين من أبناء جيله، ولم تربطه علاقات كثيرة بالوسط الفني إلا في حدود ضيقة.


مرضه المميت
لم يكن يحب عبد الله غيث التردد على الأطباء أو المستشفيات، واكتشف متأخراً اصابته بسرطان الرئة والكبد معاً بعد أن كان المرض وصل إلى مراحله الأخيرة، وكان حينها يعمل في مسلسل "ذئاب الجبل" ولم يستطع إكمال أربعة مشاهد من "ذئاب الجبل" وفي مسرحية "آه يا غجر" تحامل على نفسه حتى انتهت المسرحية.
وأثناء وجوده بالمستشفى فوجئ بوفد ليبي ينوب عن الرئيس العقيد معمر القذافي، يبلغه بأن هناك طائرة طبية خاصة تنتظره لنقله إلى أي بلد في العالم للعلاج ولكن طبيبه الخاص أخبرهم بأنه قد فات الأوان، فرحل عبد الله غيث عن دنيانا يوم 13 آذار/مارس عام 1993.

معلومات قد لا تعرفونها عن عبد الله غيث
كان يتنكر في زي ضابط تموين، ويذهب إلى مخازن التجار الذين يحتكرون المواد التموينية فيخافون، ويلقون ببضاعتهم فوق الأسطح، واشترك هو وشقيقه في العديد من المقالب فترة الطفولة والصبا.
كان يهوى ركوب الخيل غير المدربة وكان ماهراً في الفروسية.
أقيمت له جنازة مهيبة جداً وذلك بسبب أخلاقه العالية وروح الزمالة والمحبة التي كان يتشاركها مع زملائه وكذلك المحبة التي أشاعها في قريته وبين أهله وأصدقائه.
حرصت أرملة الرئيس الراحل أنور السادات على حضور عزاء عبد الله غيث، وبكت لرحيله وكانت تتحدث عنه بقدسية شديدة جدًا، إذ كان خبر الوفاة بعد فترة قصيرة من عرض مسلسل "الثعلب" الذي جسد فيه غيث شخصية "أنور السادات".