ينطلق تعريف الدراما بأنها المرآة للواقع، أي أنها تعكس كل ما يحصل على أرض الواقع من قصص وحكايات وأزمات ونجاحات، من هنا على ما يبدو إنطلقت الكاتبة كلوديا مارشيليان عند كتابتها لمسلسل "ثواني"، فتجد العمل وكأنه جزء من المجتمع الكبير، بأزماته ومشاكله وقضاياه الشائكة، من طمع التجار كدور فادي إبراهيم، وقصص الحب كما بين رودريغ سليمان وريتا حايك، والإصرار والتغلب على الواقع الصعب كما نيكولا مزهر و جهل الشباب كما دور ستيفاني عطا الله.

كثيرة هي نقاط قوة العمل الدرامي "ثواني" وتتوزع على أكثر من مكان، إنتاجياً، إخراجياً، قدرة الممثلين، وقوة النص.

النص المحبوك:

كما سردنا سابقاً فإن نص "ثواني" المحبوك جدياً كما كل أعمال كلوديا مارشيليان انطلق من الواقع، شمل العديد من الطبقات الإجتماعية، وأسهم في الدخول بتفاصيل يوميات تلك الحالات والأسر، ووصف أدق التفاصيل، كذلك جعل المشاهد يتفاعل مع كل جملة تمثيلية، مع كل نظرة تختزن الكثير من التعابير.

بدا النص كالعجينة اللينة بين يدي المخرج، فهو نص محبوك بواقعية مطلقة، قوته ببساطته وليست بتعقيداته، وهو ما ساعد المخرج بشكل كبير على تظهيره درامياً بقوة النص نفسه، خاصة أن هناك نصوصاً جميلة كثيرة لم تتظهر على الشاشة بطريقة جيدة ففقدت قيمتها عندما تم تصويرها وتحويلها لعمل درامي أو سينمائي.

إلى جانب ذلك ورغم تضمُّن العمل رسائل مباشرة كالجشع والحب والمراهقة، لكنه تضمن خلف ذلك مئات من الرسائل المبطنة التي تصيب الواقع اللبناني تحديداً، كالتعليم المكلف، والمتاجرة بالمنشطات، وشراء الأدوية الخطيرة من دون وصفات طبية والتشرد وغيرها، فبدا النص يحمل بكل حلقة قضية جديدة يتبناها ويظهرها على حقيقتها ووضوحها.

الإخراج الواقعي

تشكل ثنائية النص الجيد مع المخرج المهني رافعة نجاح لأي عمل، فماذا لو تقاطع نص كلوديا مارشيليان الواقعي مع عمق سمير حبشي الإخراجي، إذ لطالما عودنا بكل أعماله على قدرته الكبيرة بإستخدام أي نص أحسن استخدام، كما أنه لطالما أمتع الجميع بقدرته العالية على اختيار الممثلين عبر "كاستينغ" يشرف عليه شخصياً.

يعترف حبشي في مقابلات سابقة مع موقع "الفن" أنه لا يحب النجوم، بل يحب الممثلين الحقيقيين، هنا تتلخص نقطة نجاحه، أي بقدرته على إبعاد أي عامل غير مهني عن العمل مثل المقومات الجمالية على حساب الجملة التمثيلية.

اختار حبشي الممثلين بإتقان، فهو لا يهمه النجوم بل يتجه للممثلين الحقيقيين الذين يملكون ثقافة درامية عالية ومستعدين لتقديم كل إمكاناتهم وتطويعها لمصلحة العمل.

وكما دقة اختيار الممثلين كانت دقة حبشي بإختيار مواقع التصوير، حيث أبرز تجسيداً واقعياً لحياة كل أسرة، فمثلاً منزل "هنادي" ريتا حايك يتضمن تفاصيل حقيقية لعائلة فقيرة، الديكور والملابس حتى طريقة التصوير كانت مناسبة لإبراز تلك الأمور.

كما حياة "فادي إبراهيم" الغني كانت واقعية إلى أبعد حدود، فيلا ضخمة وخدم، وكيف لا وهو ثري ويتاجر بالممنوعات (المنشطات)، مع ذلك لم يتضمن واقع إبراهيم وعائلته أياً من التفخيم الإضافي، من الضخامة غير المبررة، ولم ينفر المشاهد من تلك الأمور بل استوعبها وتقبلها وهنا نقطة قوة إضافية.

الممثلون الحقيقيون المثقفون:

مع الإعتراف بحنكة سمير حبشي في إختيار الممثلين، لكن رهانه عليهم لم يأت من فراغ فهؤلاء أبدعوا في تجسيد أدوارهم، فعمار شلق بدا كعملاق تمثيل بتجسيده دور "رائد"، حيث عمل على الشكل الخارجي للشخصية بإتقان، وتفنن بتقديم شخصية "سائق الأجرة الأزعر" فأخرج كل ما لديه من موهبة وقدرات، وبدا واضحاً أنه حضّر للدور قبل أشهر بعيدة عن موعد التصوير وعاش مع سائقي الأجرة تلك الفترة واستقى منهم شخصيته.

أما ريتا حايك، فقد انخرطت بدورها بشكل كبير، ميزتها في العمل بساطتها وعفويتها، هي ممثلة مثقفة تمثيلياً، تعيش الحالة بكل تفاصيلها، لا يمكنك كمشاهد أن تشك للحظات أن ريتا ليست إبنة تلك الحالة الإجتماعية الفقيرة بكل تفاصيلها، لكنها بالواقع غير ذلك والشخصية التي تعيشها بالعمل لا تشبه شخصيتها في الحقيقة.

ختام اللحام هي الواقعية المطلقة، بالشكل والمضمون، عفوية الى أبعد حدود، بملامحها التي تتأرجح بين الخوف على "هنادي" والتعب من الحياة التي كسرت ظهرها بعد هروب شقيقتها "نهلا داوود"، فتحولت "بدر" أو ختام اللحام من الخالة الى الأم والمربية وصمام الأمان لهنادي وعائلتها.

مفاجأة المسلسل كانت الممثلة ستيفاني عطا الله التي لعبت دور المحرك الخفي لكل أحداث العمل، هي المسبب الرئيسي لتظهير الحبكة الدرامية، وعلى الرغم من أنها ممثلة مغمورة، إلا أنها نجحت بقدراتها العالية أن تلفت النظر أمام عمالقة بالتمثيل كفادي إبراهيم ونهلا داوود وعمار شلق وريتا حايك وختام اللحام وغيرهم.

نيكولا مزهر وتانيا فخري بدورهما كانا متألقين الى حد كبير، نيكولا جسد دور الشاب اللبناني الذي يعمل لإكمال علمه ومساعدة عائلته والاهتمام بإبنة شقيقته وإنقاذها من المرض، يخوض غمار الحب بواقعية، يفصل بين المستحيل والممكن ويظهر كل ذلك بحرفية عالية. أما تانيا فخري فهي الموهبة القادمة، القادرة بمساحة صغيرة أن تجعل المشاهد يتفاعل معها بقوة، وأن يحزن عليها، ويتعاطف معها، إنها الحالة الإستثنائية في العمل.

ردوريغ سليمان البعيد الى حد ما عن الدراما أثبت أنه إضافة مميزة لأي عمل درامي. عفوي، مثقف وراقٍ في التمثيل، لا يتعمد المزايدة في الدور أو الغلو في تفاصيل الشخصية، يقدمها بأريحية كبيرة، تشعر للحظات أنه ليس ممثلاُ، إنه شخص يتحرك داخل العمل بإتقان.

أما فادي إبراهيم ونهلا داوود ودوري السمراني فهؤلاء كانوا على قدر التحدي وأثبتوا مرة جديدة أنهم الورقة الرابحة أو الرافعة الأساسية لأي عمل درامي.

الإنتاج.. الميزانية المناسبة والحرفية بالتعامل:

ختاماً لا بد من الإضاءة على النقطة الأهم لأي عمل فني وهي في الإنتاج، فلولا تواجد المال والميزانية لما كان هذا العمل ليخرج على ما هو عليه، فالتعاقد مع كل هذا الفريق من المخرج الى الكاتب مروراً بالممثلين المحترفين يحتاج لكلفة مادية عالية تحملتها شركة "إيغلز فيلمز" ونجحت بإيصال العمل لبرّ الأمان ليكون من أجمل الأعمال اللبنانية التي عرضت على الشاشة.

كما لا بد من الإشادة بمهنية الشركة التي لم تتدخل بفرض هذا النجم أو ذلك الممثل على المخرج، بل كانت على ثقة بإختياراتها لمخرج مبدع وكاتبة مهنية.

النهاية الواقعية:

على الرغم من أن العديد من الأعمال حصدت نسب مشاهدة عالية لكن الكثير منها وقعت في فخ النهاية، ولأن النهاية هي مرحلة التتويج النهائي للعمل وبالتالي يجب أن تكون متفقة مع أحداث العمل ككل وليس كما يتمناها المشاهد، لا بد أن نعترف بأن نهاية "ثواني" كانت موضوعية وواقعية الى حد بعيد، فوفاة نهلا داوود "منى كرم" وعمار شلق "رائد" نهاية واقعية مهدت لتعويض ريتا حايك "هنادي" عن كل الشقاء الذي عاشته حيث ورثت مبلغاً كبيراً من والدتها، وبحكم وفاة زوجها "رائد" سوف تستطيع الزواج من حبيبها "سامي" رودريغ سليمان، بينما "سهيل كرم" فادي إبراهيم وقع في فخ أعماله وسيُحاكم على كل الجرائم التي ارتكبها، أما "لارا" ستيفاني عطا الله ففازت أولا بنفسها حيث تحولت من فتاة غير مبالية الى فتاة ناضجة وعقلانية وكذلك فازت بقلب نيكولا مزهر "داني" الذي يستطيع أن يحميها.