ترك الفنان الجزائريرشيد طهخلفه تراثاً غنياً من النجاحات الموسيقية غير المسبوقة في العالم العربي، وإن ارتبط اسمه عند العرب أو جمهوره من الغربيين، بأغنية "يا رايح" التي جالت بقاع العالم، فإن المسار الفنّي لرشيد طه شاق وغنّي، خَطَّهُ وسط مُعاناة الفقر والتهميش والعنصرية التي عاشها.

نشأته
ولدرشيد طهفي 18 أيلول/سبتمبر عام 1958، في ولاية ناحية الغرب الجزائري، وعندما بلغ من العمر 10 سنوات، رحل مع والديه إلى فرنسا. كان والده يعمل في مصنع للنسيج لساعات طويلة بأجر منخفض، وقد واجهت الأسرة في البداية الكثير من الصعاب، وعاشوا حياة أشبه بـ"العبودية الحديثة".
حينما أصبح شاباً، بدأ يعمل في أحد المصانع خلال ساعات الصباح، فيما كان ينسق أسطوانات الموسيقى العربية مع الجاز والسالسا، والفانك، في الملاهي الليلية، مساءً. هذا التناقض بين العمل الشاق في النهار والمتعة والفن في الليل انعكس فيما بعد على موسيقاه، التي كانت مزيجاً مختلفاً ومتجانساً بين الشرقي والغربي.

حالة العزلة والتمرد
في بداية الثمانينيات، تعرف رشيد طه على مجموعة من الموسيقيين الهواة في مدينة ليون الفرنسية، وشكل معهم فرقة موسيقية أطلقوا عليها اسم Carte de Séjour "بطاقة إقامة"، تعزف الموسيقى في النوادي الصغيرة.
أصبح المغني الرئيسي، وقدم آنذاك مجموعة من الأغاني التي تعبر عن روح التمرد والرفض للأوضاع السياسية في العالم، متأثرا بموسيقى فرقة الروك البريطانية The Clash. هذا لا يعني أن رشيد طه لم يؤثر أيضاً في الفرقة البريطانية، فقد التقى بأعضائها في أيلول/سبتمبر عام 1981، وأعطاهم نسخة من أغاني فرقته، لكنهم لم يعاودوا الاتصال به. بعد عدة أشهر، أصدرت الفرقة الشهيرة أغنية Rock the Casbah التي تتناول كلماتها الثقافة العربية، ويظهر تأثرها بموسيقى رشيد طه.
من جانب آخر، لم يتم الترحيب بفرقة Carte de Séjour في الأوساط الموسيقية بسهولة، لكونهم ينتمون إلى جذور عربية، وبالتالي كان من الصعب تحقيق نجاحات على المستوى المادي.
وفي عام 1984، وبمساعدة عازف الغيتار ستيف هيلاج، بدأت الفرقة في تكوين قاعدة جماهيرية وأذيعت أغانيهم في الراديو. وقد ركزت كلمات الأغاني التي كتبها رشيد طه على التعبير عن حالة العزلة والصراع بين أصوله الجزائرية، وكونه مهاجراً في المجتمع الفرنسي.

العزف المنفرد
في نهاية الثمانينيات وتحديداً عام 1989، إنتقل رشيد طه إلى باريس، ليؤسس مشروعه منفرداً. وفي فترة التسعينيات لمع نجمه بعدما قدم عدداً من الألبومات التي تناقش حال العرب في أوروبا وتعيد إنتاج أغاني تراثية مهمة؛ مثل Olé, Olé في عام 1995، وCarte Blanche الصادر عام 1997، وDiwân إنتاج عام 1998.
وفي بداية التسعينيات بدأ تجربة للغناء المُنفَرِد بإطلاقه لألبوم في الولايات المتحدة لم يلق الصدى الذي كان يرجوه منه، وشهدت تلك الفترة الظهور "العالمي" القوي والبارز لموسيقى "الرّاي" بانتقالها إلى أوروبا وأميركا والمشرق العربي، بعد الانتشار الكبير الذي حقّقه شاب جزائري آخر هو الشاب خالد، فقرَّر أن يسلك ذات الطريق الذي بدأه الجيل الأول من شباب الرّاي، من أمثال الملحّن الصافي بوتلّة وخالد حاج ابراهيم (الشاب خالد) ومحمد خليفاتي (الشاب مامي)، في تطوير التراث الموسيقي الشعبي الجزائري (إعادة التوزيع الموسيقي بإدخال آلات جديدة وعصرية)، بشكلٍ يُسَهِّل اندماجه في الفضاء الموسيقي "العالمي" (الأوروبي والأميركي)، دونما أن يفقد أصالة ألحانه الريفية والشعبية.
هكذا إختار رشيد طه عام 1997 من "الرّصيد الغِنَائِي" الثري لدحمان الحراشي، أحد أعمدة الأغنية الشعبية الجزائرية أغنية رائعة في لحنها، ومُعَبِّرة في كلماتها، لمُلامستها لمشاعر الحنين للوطن لدى المغتربين، فهي تذكير لكل "رايح" مسافر بأنّ مصيره بعد التعب والعياء، هو أن يُولِّي مُدْبِراً ويرجع لأرضه وأهله. هي أغنية "يا رايح" التي صنعت منه نجماً ذائع الصيت، وحقَّقت انتشاراً واسعاً في كل بلاد العالم، وأُعيد استنساخها بلغات عديدة وأصبح اسمه بالأصل مقروناً بها.

تجربة غنائية جديدة
إلتحق رشيد طه بعد ذلك بركب تجربةٍ غنائيةٍ ناجحة، في ذروة "الثورة الموسيقية"، التي أحدثها "الرّاي" في أوروبا والعالم في عقد التسعينيات من القرن الماضي، فقد شارك في حفل تاريخي كبير هو الأضخم من نوعه في تاريخ الموسيقى الجزائرية والعربية سُمِيّ : 1،2،3 شموس 1,2,3 SOLEILS برفقة مغنيين جزائريين آخرين هما خالد وفضيل، تم فيه إعادة أداء مجموعة كبيرة من الأغاني التراثية من مختلف المناطق الجزائرية بتوزيعات موسيقية جديدة، لاقت نجاحاً كبيراً وانتشاراً واسعاً، ونقلت، عملياً، فولكلوراً من عمق الثقافة الشعبية إلى أبعد مدى وبِحُلًّة قوامها التجديد والإبداع، كان أبرزها أغنية "عبد القادر" المُقتبسة من قصيدةٍ من الشعر الشعبي الملحون.
ومع إنطلاق الألفية الثالثة، طرح ألبوم Made in Medina الذي سجله في باريس ونيو أورلينز ولندن، ومزج فيه بين الموسيقى الأفريقية والأميركية، وإزدادت شعبيته في هذا الوقت، وإهتم النقاد بأعماله ورسائلها ذات الطابع السياسي. وتوالت بعد ذلك الألبومات الناجحة؛ وأصدر في عام 2008 ألبوم Rock N Raï، وتبعه في عام 2009 بألبوم Bonjour، حتى أطلق ألبوم Zoom الذي نال شهرة واسعة في عام 2013، وناقش خلاله عدداً من القضايا الخطيرة.

جوائز رشيد طه
حصل رشيد طه على العديد من الجوائز العالمية، أهمها Victoires de la Musique - Honorary Award، جائزة الموسيقى العالمية لأكبر مبيعات لمغني في الشرق.
وفي مهرجان الموسيقى في عام 2001، وصفت "بي بي سي" موسيقاه بأنها "خليط مغر من موسيقى شمال أفريقيا التقليدية، وموسيقى الروك ، والتكنو".

أزمة قلبية تودي بحياةرشيد طه
رحلرشيد طهيوم 11 أيلول/سبتمبر عام 2018، إثر تعرضه لأزمة قلبية أثناء نومه في منزله المتواجد في العاصمة الفرنسية، باريس.
تمتع بروح المغامرة، ولم يكن يوماً شخصاً تقليدياً، بل كان محباً للتغيير وللتجارب الجديدة عبر موسيقاه لأكثر من 30 عاماً، معبّراً عن أوجاعه وآلام العالم من حوله، تاركاً وراءه إرثاً فنياً لا ينضب.