هو مشوار إلى صور، لا بل هي رحلة لاستكشاف المناطق الساحلية على شواطئ لبنان الجنوبية.

تحاصرك أمواج البحر عن يمينك لتشهد على غياب الشمس عند الساعة السابعة والنصف وعن يسارك جبال لبنان الخضراء تتغنى بأشجارها.

من بيروت الى صور، ساعتان ونصف الساعة من المغامرة والتأمّل بلبنان الماضي والجمال التاريخي، ها هي قلعة صيدا القديمة تطلّ على المرفاء البحري لتستقبل زوارها. ارتأت لجنة المهرجانات ان يتعرّف الزائر على مناطق صور وجمالها قبل الوصول الى قلعة شقيف في بلدة أرنون قضاء النبطيّة.

اللّيلة ليلة افتتاح مهرجانات صور والجنوب بدورتها الـ17 وسهرة غي مانوكيان وجيبسي غروب. ليلة من الموسيقى والرّقص والفنّ حتّى منتصف اللّيل.

الافتتاح كان مبهرا، استذكر المهرجان تاريخ قلعة شقيف على جدرانها بصور غرافيكس، شكلت خلفية المسرح، استفاقت القلعة من جديد ونفضت عنها غبار السنين، عادت اروقة القلعة لتنبض بشعوبها التي عانت بسبب اندلاع الحروب عبر التاريخ في زمن الصليبيين الذين بنوا هذه القلعة الى صلاح الدين فالمماليك وصولا الى العثمانيين، إلا أنها ظلت لبنانية الهوية وفخر الجنوب الذي ينبض بمهرجاناته الفنية. وقد انعكست على جدار القلعة صورة لبنان الذي يحترق علمه لتعود ألوانه وخضار أرزته، وينطلق النشيد الوطني اللّبناني أمل الصغار من الجيل الجديد حيث وقف على المسرح تلاميذ حاملين العلم اللّبناني، الدّهشة ارتسمت على وجوه الحضور لدقائق عند اطلاق المفرقعات النّاريّة حيث هتفوا بكلمة واحدة "واو". رئيسة المهرجان السّيدة رندة عاصي بري قالت:"كي لا تسقط الأمكنة بما تمثل من تاريخ وتراث في قبضة النسيان، نحن هنا لإيصال قلعة شقيف الى كل لبنان والعالم وفي العام المقبل سنكون مع مهرجانات صور في الملعب الروماني نطل من خلاله على لبنان الرسالة ولبنان وطن الضرورة الحضارية لكل العالم".

بعد الفيلم التاريخي الذي وثّقه المهرجان بصوت جوزيف بو نصار تبعه روبرتاج عن التجهيزات الارضية التي سبقت ليلة المهرجان وتحضير القلعة والمدرجات استعدادا لحفل غي مانوكيان.

لا شيء يذهب سدىً، فبعد التعب والمجهود المتواصل يأتي الإبهار وعنصر التشويق في مهرجانات صور، وماذا بعد؟

غي واصدقاؤه على المسرح الى جانب الفرقة الموسيقية بادارة المايسترو ايلي العليا، موسيقى وايقاعات شرقية امتزجت بايقاعات غربية جميلة صنعها غي بمزيج بين الشرق والغرب ترجمها عازفو الكمنجات والقانون والغيتار والطبلة.

أشعل غي الاجواء باغنية للفنانة كارول سماحة "وحشاني الدنيا في بلدي". لا ملل مع مانوكيان فهو يتفاعل مع الفرقة والحضور، يعزف على البيانو بمهارة عالية ومتقنة وكأنها طابة في ملعبه وحده.

في حفله، عاد غي الى مكتبة الفنان زكي ناصيف واستذكر مهرجانات بيت الدين حين قدم ارشيف زكي ناصيف منذ اربعة اعوام واختار اغنية "بنقيلك احلى زهرة" وطلب من الجمهور الغناء معه. وما ان انطلق بالعزف حتى اسكت الموسيقى واستمع الى صوت الجمهور يردد كلمات الأغنية حتما اعمال العمالقة لا تموت ابدا.

لم يحضر غي بمفرده الى قلعة الشقيف، بل اصطحب معه عازفين من بلدين مختلفين ماريو رييس وبول سانتياغو جيبسي كينغ، اللذان شكرا غي ولجنة المهرجانات على دعوتهما من جنوب فرنسا واسبانيا وحاولا التعبير باللغة الفرنسية والاسبانية، فسارع غي الى ترجمة حديثهما ممازحا بانهما يحبان الطعام الارمني كثيرا، فساد جو من الضحك على مدرجات المسرح.

بعد انتهاء الثنائي الاوروبي، طرأ عطل تقني على البيانو احدث حالة من الارباك على المسرح في ليلة الافتتاح، فقام فريق العمل بتبديل البيانو بدقائق واستعانوا ببيانو اصغر حجما لكنه اكثر مفعولا. وفي الوقت الضائع ملأ سانتياغو الاجواء بالعزف على الغيتار بايقاعاته المميزة.

ثم عاد غي الى المسرح وقال :"بس بلبنان بتصير بغير مطارح كان وقف الكونسرت". كل ذلك يدل على احترافية غي والمهرجان فكان الـ Plan B حاضراً لافتتاحية تليق بمدينة عريقة اسمها صور.

في "الموسيقى المانوكية"، ليس فقط مزج بين الغربي والشرقي بل بين الإيقاعات الهادئة ومن ثم ايقاعات سريعة تسقط الأحاسيس الضعيفة لتعود وتلتقط انتباه المستمع وتزوّده بأحاسيس منتفضة.

مع الفنانين حوار خاص، يخاطب غي الجمهور بالعزف على نوتات الحانه لا غناء أو تفوها بكلمة وما ان ينطلق بالعزف حتى يستذكر الحضور كلمات الاغنية، من فيروزيات وكلثوميات وارشيف زكي ناصيف وأغاني التراث العريق. عزف "ما لي شغل بالسوق" و"طلعت يا ما احلاها" "يا حبيبي" ام كلثوم، وسط التفاعل المميز حيث عبّر غي بعفوية قائلاً:"تعوا على مهرجانات صور وتعلموا كيف تُصنع المهرجانات، أنتو بتعقدو".

بعد الغناء والعزف، راقصان من لندن رقصا على انغام أغنية "حلوة يا بلدي" عزفها غي على طريقته بإحساس عال اخذتنا تلك اللوحة الراقصة للتأمل بوطن مهما ابتعدنا عنه يُرجعنا الى جماله الفريد.

"يا رايح وين مسافر"، اغنية تستكمل القصة التي يحيكها غي في سهرته هو متعلّق بلبنان وشعبه وأرضه، ويقول في حديث خاص:"ما يحدث الآن يجب أن يحصل في كل مكان من لبنان، استرجع في هذا الريبرتوار الموسيقى التي تصنع من لبنان هوية ورائحة ونكهة، وأحاسيس موسيقاي أو موسيقى زكي ناصيف وغيرها تبعث بالنفوس الوفاء للوطن وترابه في النهاية العودة ستكون الى لبنان البلد الذي ولدنا فيه وسنموت فيه لكن أملنا العيش بكرامة."

يطوف غي مانوكيان العالم العربي ليعود الى أغنية "زينة " باللهجة الجزائرية، وفي رحلة تصاعدية نحو ازدياد الحماس، خلع مانوكيان سترته وانطلق بحماس بالعودة الى الاغنيات اللبنانية "كان عنا الطاحون" فأشعل فيها مدرجات صور ونالت تفاعلا لافتا، جنون ارمني لبناني بحت لا تستطيع ان تراقب اصابع غي تتنقل على البيانو في عزف حماسي بارع. غي في هذه الليلة استحق التصفيق وقال للناس "إنتو بتعقدو"، فبادروه "انت بتعقد".

وأهدى غي إبنته "كارا" معزوفة عزفها للمرة الأولى، وكان قد ألفها من وحي مناسبة ولادة إبنته.

أغنى عازف البيانو ورئيس لجنة كرة السلة في فريق الهومنتمن المهرجان بأرشيف زكي ناصيف وأغنية "يا عاشقة الورد". عبق من الحنين وذكريات الماضي أجواء رومانسية حرص فيها على التأثير بالحاضرين.

وبعد الرومانسية محطة مع الجيبسي كينغ وأغنية "باندوليرو"، نقلت الأجواء الى لحظات من الرقص والحماس والنشاط وفي كل مرة يحاول رييس التحدث بالفرنسية يترجم غي له الجملة نفسها ولو انها لا تعني ما يقوله، وهي:ة " هو يحب الأكل الأرمني"!

لا استغناء عن الطبلة والطبل في امسية لبنانية تحب الرقص والحياة. يعزف غي واقفا على البيانو وتارة اخرى جالسا على طرف الكرسي، حماسه يملأ المسرح تعيش فيه الموسيقى في كل جسمه الذي يتحرك من رؤوس أصابعه حتى أخمص قدميه.

تشعر ان البيانو كرة في ملعبه يروّض مفاتيحه كما يشاء ويرمي بألحانه على المتذوقين للفن، ففي تلك الليلة لم يبقَ أحد يجلس على كرسيه مع اختتام السهرة بأغنية "نسم علينا الهوا". وبناء على طلب السيدات رندا برّي ومنى الهراوي وليلى الصلح حمادة، عزف أغنية "راجع يتعمر لبنان" للراحل زكي ناصيف، وهتفت معه أصوات الحاضرين الذين لوّحوا بأعلام لبنان التي وُزعت على مدرجات المهرجان. وفي هذه اللحظات المفعمة بالمشاعر، حصلت حالة إغماء وسارع الصليب الاحمر اليها.

إنها مشهدية مؤثرة تعد بأن لبنان مستمرّ بفنه ومواهبه وأجوائه الرائعة.