"القليل في الحب لا يرضيني"، والكثير من شرحه لا يكفي.


لست هنا لأكرر ما قيل عن سطور الحب، لأن للحب صفحاته المختلفة. صفحات بيضاء مكتوبة بخليط من الشعر والفن والأدب. سأسميها لغة العيون، اللغة الصوفية. نعم أتكلم عن"اللغة الجبرانية".
قصائد عشق تمثِلُ أجمل قصة حب حصلت بين الشاعر والاديب جبران خليل جبران والأديبة مي زيادة.
نشأ هذا الحب بين الإثنين ودامت العاطفة بينهما حوالي عشرين عاماً، من دون أن يلتقيا الا في عالم الفكر والروح والخيال. إذ كان جبران في مغارب الأرض مقيماً في أميركا وكانت مي في مشارقها في القاهرة. من الطبيعي أن يتعارف كل ّ من جبران ومَي على بعضهما البعض، لأن ملتقاهما واحد: الفكر والشعر والرومانسية الشفافة. عاشا أصدق الحب من دون أي لقاء بينهما. وكانت مي معجبة بمقالات جبران وافكاره فبدأت بمراسلته في أول قصة كانت "الأجنحة المتكسرة" التي نشرها في المهجر ومن هنا كانت البداية.
رغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة، دامت المراسلات بينهما حوالى 20 عاماً منذ 1911 حتى 1931.
وبما أنّ كل منهما سعى لرؤية الآخر، الكبرياء في الحب وعدم قبول الاعتراف بنهايته، جعل كل من جبران خليل جبران ومي زيادة يلتقيان مجدداً.
الممثل اللبناني جهاد الاطرش والممثلة اللبنانية برناديت حديب، أطلا وبكل احتراف، يوم الثلاثاء الواقع في 28-11-2017 على خشبة المسرح في صالة بلدية زوق مكايل ، بدعوة من المنتدى الثقافي والفني برئاسة روجية ضاهرية، ليقدما دوراً تمثيلياً للأديبين.

قدمت الاعلامية ميراي عيد هذه الامسية الشعرية وعرّفت عن جميع الحاضرين والمشاركين في الحفل ، بدورها الشاعرة اللبنانية نهيلة صعب حيّت الحاضرين وقدمت الممثل جهاد الاطرش، مقدّمةً بشكل مقتضب قصة جبران ومي وكيفية إحيائها مجدداً من قبل الاطرش وحديب. ووصفت الاطرش قائلة "يا كاتباً لمعت في بلاغته...ويا فيلسوفاً لمعت له الشهب".

أُطفئت الانوار وأطلقت مخارج الحروف الرائعة من حنجرتي الاطرش وحديب.

مشهدٌ صوفيٌ يحيا مجددا على المسرح. وكأننا نعيش قصة تاريخية بنكهة أخرى. نكهة التقائهما للمرة الاولى. بات التصفيق عالياً والجمهور الحاشد تأثر بكل كلمة من تلك الرسائل.

"أخاف الحب، أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير. الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير، كيف أجسرعلى الأفضاء اليك بهذا؟ وكيف أفرّط فيه؟ لا أدري. الحمد لله اني اكتبه على ورق ولا أتلفّظ به، لأنك لو كنت حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً، فما أدعك تراني الا بعد أن تنسى. حتى الكتابة ألوم نفسي عليها احياناً، لأني بها حرة كل هذه الحرية. قل لي ما إذا كنت على ضلال أو هدى. فإني أثق بك، وأصدق بالبداهة كل ماتقول! وسواء كنت مخطئة فإن قلبي يسير اليك، وخير ما يفعل هو أن يظل حائماً حواليك، يحرسك ويحنو عليك.

غابت الشمس وراء الأفق، ومن خلال الأشكال والألوان، حصحصت نجمة لامعة واحدة هي الزهرة، اترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون؟ ربما وُجد فيها من هي مثلي، لها جبران واحد، تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء، وتعلم ان الظلام يخلف الشفق، وان النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار، والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة قبل أن ترى الذي تحبه. فتتسرب اليها كل وحشة الشفق، وكل وحشة الليل، فتلقي القلم جانباً لتحتمي من الوحشة في إسم واحد : جبران !" وغيرها من الرسائل الرائعة التي قيلت، ليرد عليها جبران:" استيقظت الساعة من حلم غريب. ولقد سمعتك تقولين لي في الحلم كلمات حلوة ولكن بلهجة موجعة, والأمر الذي يزعجني في هذا الحلم ويزعجني جداً – هو أنني رأيت في جبهتك جرحاً صغيراً يقطر دماً. ليس في حياتنا شيء أدعى إلى التفكير والتأمل من الأحلام. وأنا من الذين يحلمون كثيراً ، بيد أنني أنسى أحلامي إلا إذا كانت ذات علاقة بمن أحبهم. لا أذكر أنني حلمت في ماضيَّ حلماً أوضح من هذا الحلم، لذلك أراني مشوشاً مضطرباً مشغول البال في هذا الصباح. ماذا تعني رنة التوجع في كلماتكِ الجميلة؟ وما معنى الجرح في جبهتكِ؟ و أيّ بشري يستطيع أن يخبرني مفاد انقباضي وكآبتي؟ سوف أصرف نهاري مصلياً في قلبي. أصلي لأجلكِ في سكينة قلبي. وسوف أصلي لأجلنا. والله يباركك يا ميّ ويحرسك_ جبران".
" القليل في الحب لا يرضيني" بهذه الكلمات اختتم حوارهما وأرفق بالصفيق الحاد.

فنّ في الأداء سحرتنا به غبريال المر، عندما اعتلت المسرح بثوبها الأبيض الذي يمنعك عن رفّة جفنك، يأخذك الى عالم الخيال كأنها فراشةً تطير الى خيال الشعر.

المر والتي اعتبرت أنّ الفن التعبيري، هو لغة ليتواصل من خلالها الجميع. جعلت لغة مي وجبران تظهر في كل حركة من جسمهاـ تترجم في دموع الجمهور.

مزيجٌ ما بين الموسيقى والفن والشعر، ترعرع على خشبة المسرح. الممثل والاستاذ والمتخصص في علم النفس طارق بشاشة، بدأ بالعزف على الكلارينيت وأتحف الجميع بما قدمه ، وكان لنا معه الحوار الآتي.

يقال إنّك بدأت في عزف الموسيقى منذ نعومة أظفارك وأنت تدقّ على "طناجر" المطبخ. هل هذه اشاعات أم ما قيل صحيح؟
نعم صحيح، بدأت الدق على الطناجر منذ عمر الـ5 سنوات، لأن الكشاف كان بالقرب من منزلي وكنت أذهب للإستماع إليهم وأقدّم "البروفا" في البيت. من ثم، تشوقت أكثر للموسيقى ودخلت الكشافة وطورت نفسي.

هل أهلك كانوا من الداعمين لك ؟
لا، لم يشجعوني، ومزح قائلاً:" كنت أطوشن للجيران". لكن شغفي بالموسيقى لن يحدّه شيء.

لم إخترت الكلارينت تحديداً؟
في البدء كنت ألعب ايقاع، والقصة كانت عفوية جداً عندما ذهبت الى مخيّم في بولندا، وتحمّست جداً لشاب كان موجوداً هناك ويعزف على "الأكورديون" وبعدما رأيت الفتيات تتحمس لسماع ما يعزف، أعجبني الموضوع. وعندما عدت من السفر وقررت العزف، ما من أحد كان يعلمني على الأكورديون، فتعلمت حينها على الكلارينت وعشقتها. وبأقل من أسبوع تعلمت العزف.

كيف تصف الفن اليوم وتحديداً الموسيقى؟
بعيداً عن الموسيقى التجارية وصنع المعزوفات فقط بهدف البيع، يبقى للعزف الجميل الحصة الاكبر. وأنا أذهب للموسيقى التي أتعامل معها بصدق.
وعن الأمسية الشعرية، وصفها بكلمات مقتضبة وقال أنّ العمل أرضاه جدا وكان مميزاً.

وكان لنا مع الممثلة برناديت حديب اللقاء الآتي .

بدايةً، كيف تصفين هذه التجربة مع الممثل جهاد الاطرش؟
صراحة، إنتابني الخوف عندما صعدت على المسرح، والسبب أن الاستاذ جهاد الاطرش هو مدرسة في الادب والتمثيل والالقاء والشعر.لا أحد يستطيع أن يقف أمامه إلّا وسيشعر برهبة كبيرة، ولكن في الوقت عينه، هو أب حاضن وشخص مريح لدرجة أنه يضفي على الآخر الثقة والمعنويات، فتشعرين تلقائياً بالراحة وتنطلقين بجدارة.
أنا سعيدة جداً أنني خضت هذه التجربة معه وأنني قرأت هذه الرسائل الشعرية معه.

عندما استدعيتِ لالقاء الشعر مع الاطرش، وبعد خوضك التجربة، هل آمنت فعلاً بحب الرسائل والحب الجنوني؟
البعد يخلق تخيلات والتخيلات تلد حباً من نوع آخر، لذلك نعم أنا أؤمن بالحب ولو فيه مسافة. واذا عاش جبران ومي هذه الحالة، اذا سيعيشها آخرون، الحب لا هوية له، يلد من لا شيء وينمو على الرغم من كل الصعوبات.

بعيداً عن الفن، لعبت أدواراً إجتماعية بارزة، وكونك مساعدة لدور المؤسسات الاجتماعية، وبذكر مناسبة العنف ضد المرأة، ما هي الرسالة التي توجهينها للمرأة اللبنانية؟
على المرأة أن تثور وتنتفض. عليها قول "كلا" لأي عنف يوجه اليها، أكان عنفاً نفسياً أو جسدياً. واذا لم تدافع عن نفسها، ما من أحد سيدافع عنها. أنا بالطبع ضد العنف بكل أنواعه، ومن خلال مسيرتي الفنية، أحاول دائماً أن أمثل أدواراً لها علاقة بالموضوع، على أمل أن يصل الصوت . والغاية في هذه الحياة هي المحبة، خصوصاً وأن الله محبة، ومن دون المحبة لا يمكننا العيش.

الممثل جهاد الأطرش قال لموقع "الفن" عن الأمسية :"لا شك، تعوّدنا على قراءة الشعر لجبران، ومي زيادة. وتأثرنا بأدب جبران، هذا الادب الرفيع والراقي في المدارس والجامعات والمنتديات الثقافية. فبمجرد أن دعاني الاستاذ روجية ضاهرية، رحّبت بالفكرة وسارعت اللقاء مع الزميلة برناديت حديب، هذه النجمة الكبيرة، صاحبة الاحساس الراقي والثقافة العالية، ولا شك أن التجربة كانت رائعة جداً، احساس راقٍ، وابداع مميز".

وعن مدى تأثير الشعر في شخصيته، قال لنا الأطرش :"أثّر كثيرا وخصوصا في العصر الماضي عندما مثلت كل شعراء العرب".

وعن الشاعر الراحل سعيد عقل، قال :"تعودت دائماً أن أقرأ لسعيد، وبات الارتباط متين عند قراءاتي الممتالية. وبالنسبة لي، شعاري هو الثقافة ومبدأي هو الثقافة، لأنه ومن خلاله، يربى الفن والشعر والتمثيل والغناء والادب وغيره..".

وفي إجابة على سؤالنا "أنت اليوم مخضرم في مجال التمثيل، وقطعت مسيرة طويلة.. هل لا زلت تتعلم أموراً غابت عنك؟ أم مثلاً تشاهد نفسك على الشاشة لعلك ترى أخطاء أو أي تعليق؟" ، قال لنا الأطرش :"بطبيعة الحال، علينا مشاهدة أنفسنا للمعرفة النقدية من جهة، ولتعمقنا بما قمنا به ونظرتنا الى العمل كمشاهد من جهة أخرى، وما من شك بأن الخبرة تترسخ عند مشاهدتنا أدوارنا ونتطور حينها بطبيعة الحال. الفن يتطور مع تطور العلم والثقافة، والمجتمعات تتطور لذلك بالطبع التمثيل يتطور مع تقنيات جديدة .

أخيراً، هل تعتبر أنّ التمثيل يعكس الواقع، أم الواقع يعكس التمثيل؟
في الحالتين تكمن الحقيقة، لأنه طبعاً المسلسلات والافلام تعكس قصصاً من مجتماعتنا، وكذلك وبطريقة معاكسة، أحيانا مشهد من مسلسل يغيّر شخصيتنا وحالتنا.

روجية ضاهرية:

كان لنا مع روجية المقابلة التالية:

كونك اليوم، رئيس المنتدى الثقافي والفني، كيف تقيّم هذا اليوم؟
سررت جدا بالنجاح الذي لمسته من عدد الجمهور الكبير، وهذا بالطبع ما يشجعنا اكثر وأكثر للعمل على المواضيع الثقافية والفنية. شعرنا بعد تسع سنوات، أن وجودنا حاجة لترسيخ الثقافة والادب للناس.

وعند سؤالنا له عما اذا كان الناس لازالوا دائما يكترثون للفن والثقافة على الرغم من الاوضاع السياسية والاجتماعية التي نعيشها أجاب:" نعم لأنها ترفّه عن الناس وتضفي عليهم الفضول لمعرفة المزيد".

وأنهى كلامه شاكراً موقع الفن، طالباً منا أن نبقى في رسالتنا الفنية لأن مسؤوليتها كبيرة، فالخطاب السياسي يزول، أما الخطاب الثقافي، فيترسخ في مخيلتنا ويصنع أجيالاً.

أمسية شعرية أدبية، انتهت لكنها لن تنهي مخيلاتنا وذكرياتنا عن هذه الجلسة الجميلة، وبطريقة مفاجئة، وبمناسبة عيد ميلاد برناديت، قطع جميع الحاضرين قالب الحلوى واحتفلوا بهذه الفرحة، وأطفأت برناديت شمعة عيدها.

"القليل في الحب لا يرضيني"، والكثير من هذه الامسية وهذه الرسائل لا تكفينا جميعا.

لمشاهدة ألبوم الصور إضغطهنا.