رحلت جانيت فغالي، وبقيت صباح.

بقيت هنا، في وجداننا، في عقلنا الواعي و جنون لاوعينا، بقيت في الحبر السائل عشقاً على أوراق كاتب يحترف الإبداع، بقيت في لحظة حب تجمع قلبين على أوف ووعد زواج، هي هنا، بين نشيد العلم وأناشيد أحلام وطن، هناك من على أعلى قمم أرز الربّ إسمٌ يتفيّأ تحت أغصانه بظلّ تاريخ فخور ومستقبل خجول، بقيت مع اللبناني المتلهّف للحياة، المبتسم على شفير الدمع.

اليوم الذكرى السنوية الثالثة لرحيلك صباح، ولا ذكرى كذكراك يا صبّوحة، يا ميجانا صادحة على مدارج بعلبك، يا ذخرا من أيّام العزّ وليالي لبنان العتيقة، يا شحرورةً عرفها الوادي إلى حدّ الوحدة، فردد صوتها صدى على وسع كون فينيقي مشرقي.

في ذكرى رحيل الصبّوحة، نعتلي منبر الكلمة و نقول لها، أنّ من رحلت في هذا اليوم ليست جانيت أو صباح، و إنما حياة، سيّدة لم تصبح فنانة بل أصبحت الفن بحدّ ذاته، فالفن لا يقتصر على المايكروفون و الأوتار الصوتيّة الجميلة، بل الفن هو تواضع الروح، كِبَر النفس، عطاءُ الذات بالفكر والعمق و الوجدان، الفن هو الإلتزام بالوقت كما بوعد الكلمة، الفن هو الإنتماء للناس، لأحلامهم، لخوفهم، لغضبهم، لوطنهم ، لأنين غربتهم وضعفهم، هكذا كنتِ يا صبّوحة، غنّيت الوطن، الحب، الوحدة، الغدر و الوفاء، أنت من عشتِ تحت الأضواء و لم تحترقي يوماً بلسعاتها، فلم نسمع عن أيّ خلافٍ لا مع زميلٍ فنّي ولا صحافي أو سياسي، كنتِ دائماً جامعة ، نذرتِ الحب سبيلاً للحياة .

من يعرف الصبوحة، يعي تماماً ما كانت عليه من خُلقٍ و شهامة، كانت تحضر إلى الموعد قبل الطرف الآخر، تلتزم بكلمتها، وتعمل بمهنيّة من دون أن تميّز بين صغير ومخضرم.

اليوم ذكرى رحيلك صبّوحة، أنتِ من كنتِ تعضين على جرح الغدرِ و الإجحاف، لتعاملي الحياة بإبتسامةٍ ونيّف. أنتِ يا منّ حملتِ إلى النيلِ قطرات صنين، فعشقتكِ جماهير مصر المحروسة باللهجة اللبنانيّة، التي كنتِ تصرّين عليها في كل عملٍ فنّي، فأصبح لسان الإبداع الفرعوني ينطق بلهجةِ القوميّة اللبنانيّة عن إقتناعٍ ومحبّة.

لم تخجلي يوماً بلهجتك ولم تعيشي عقدة الأرقام وهوس الاقليات كما يفعل الكثيرون اليوم، لم تُسايري في الفن، بل سيّرتي مسيرة كبيرة وقويّة ، قويّة كخبطة الدبكة على خشبة البيكاديلّي، وصوت التصفيق في دار الأوبرا المصريّة.

ذكراكِ اليوم يا صبّوحة، والذكرى ليست في تشرين أو أيّ شهرٍ زمنّي، بل هي من الشمس الساطعة على تراب بقاعٍ بمواسم الخير، على شمال يعزف جرس قنوبين وناي جبرانيّ، وفي جنوب ملتزم بقضيّة، وجبل يحرس التاريخ.

ذكراك يا صباح هي بيروت، كتاب، قلم وصلاة، يذكرك الوطن في أعيادهِ، حفلاته، جيشهِ ، برّه و بحرهِ...

لن نذكر آلامكِ، ولا أحزانكِ، لن نتطرّق إلى خصوصياتكِ ولا أسراركِ كما فعل البعض، لن نذكر اليوم إلا ضربة السلام التي كنتِ تلقيها على المسرح، و نبادرك السلام بالسلامِ، بوعد الوفاء ، بصدقكِ المشاعر ، والحقّ الحقّ.

رحلت جانيت فغالي، لكن صباح دائماً وأبداً، على قيد الحياة.