​​​​​أفلامنا و مسلسلاتنا في معظمها، تنتمي إلى نمطية الخوف و التستّر رماديّ اللون، فلا تقترب من الأبيض و لا تُلامس الأسود، رعباً من حقيقةٍ تجرحنا، أو ذعراً من تعريةٍ تفضحنا.

أسامي أبطالها أيّ الافلام و المسلسلات، هي كريم و نديم و سامي، علّ الطوائف و المذاهب تكفي شرّها عن نصوصنا، الأماكن المذكورة في السيناريو هي "ذلك المكان" ،"ذاك الشارع"، "المنطقة إياها" ربما تساعدنا التسميات في المشيّ قرب الحائط تستراً من واقعٍ ناصعِ التبيان. هذا النمط، إنكسر للمرة الأولى بصريح العبارة و صراحة الكلمات، "القضية رقم 23" فيلم لزياد الدويري و من بطولة عادل كرم، ريتا حايك، ..... تمّ إفتتاحه في الصالات اللبنانيّة ، و الأهم أنه فتح النفوس اللبنانيّة على بعضها.

نختصر القصة لنترك للمشاهدة رونق روعتها، هي قصة طوني الحامل لجرح مجزرة الدامور التي إرتكبتها منظمة التحرير الفلسطينيّة بحقّ أهل المنطقة عام 1976، وهو المنتمي إلى حزب القوات اللبنانيّة لا يزال يحمل حقداً على الفلسطينين اللاجئين في لبنان، يقع خلاف يبدأ بسيطاً بينه و بين مسؤول ورشة في منطقة فسّوح في الأشرفيّة حيث يقطن طوني، و من ثم يتوسّع بيكار الخلاف ليصبح على مستوى مصيبة رأي عام. هذا هو فحو الموضوع، أما التفاصيل فنتركها لمشاهدٍ يتردد قبل أن يشتري بطاقة لفيلمٍ لبنانيّ، لأنه ملّ من معظم الأفلام الساذجة في طرح الموضوعات إلى أن عُرض هذا الفيلم.

الأسامي صريحة "طوني، ياسر، محمد" المناطق واضحة " الأشرفية، مخيّم اللاجئين، الدامور، الشرقية و الغربيّة" ، التعابير محض لبنانية منتقاة من أحاديث الناس و ليست من مخيّلة كاتب :" يا ريت شارون محاكن، أيلول الأسود بالأردن جابكن مصيبة علينا، المسيحيية معودين على الشاليات و السهر، مجزرة الدامور شاركوا فيها الصاعقة و جيش اليرموك و لبنانين متعاونين....". جُملٌ لطالما رافقت أحاديثنا و تقييمنا لماضٍ لم ينته، لا يزال يعيش مع فواتيرنا، كهربائنا المقطوعة، طرقاتنا جلجلات يومنا، مسرحياتنا الإنتخابية، هزلياتنا السياسيّة. لأول مرة في تاريخ السينما اللبنانيّة، تُسمى الوقائع كما هي، تُقال الحقيقة كما هي، يُعرّى اللبناني كما كان و كما هو. إن وافقنا على الحديث أم لم نوافق، إن كنا ننتمي إلى يسار الماضي الكئيب أو إلى اليمين العائم على وجه المياه اليوم، سنعترف بحقيقة السيناريو و الكلام الصارخ.

عندما تتابع مشاهد الشغب في الشارع، تشعر للوهلة الأولى بأن المخرج قد استعان بمشاهد من ماضٍ قريب ،للفوضى التي عمّـت شوارعنا، لكن بعد القليل من التركيز تكتشف أنها مشاهد مصوّرة بحرفيةٍ إخراجيّة تحمل إبداع المخرج، فهو من يُحرّك الممثل و هو من يُدير المشهد. الكاميرا لم تكن جامدة طوال الفيلم، بل تحركت لترصد أفعال و ردة أفعال الممثلين، من بُعدٍ و عن قربٍ ، لتتضح الصورة العامة وتتكشّف للمُشاهد كل التفاصيل.

عادل كرم، بيّن عن تقدّمٍ كبيرٍ في قدراته التمثيليّة، كان خير مجسّدٍ للشخصيّة، ميكانيكيٌ محترف، إبن الأشرفيّة، إبن القضية يحمل في وجدانه قضيّة شعبٍ تآمر كل الأشقاء عليه، فدافع عن وجودهِ بروحٍ بطوليّة. قال ما يُقال، صرّح ما يُصرّح به، إنفعل بإنفعالاتٍ لا نزال نشهد عليها حتى يومنا هذا.

الموسيقى تليقُ بالمشهديّة ، الإضاءة محترفة لم تَضِع بأوهام تغطية هذا العيب أو ترقيع هذا الخطأ، لا بل كانت إضاءة واقعيّة تُشبه الحالة المجسّدة. الممثلون كلهم تجانسوا في الحوار، على مستوى متلازم بحيث لا يعلو أداءٌ على آخر. و الأهم من كل هذا، الدقّة في البحث و إعطاء المعلومات بصراحة و موضوعيّة، كتفاصيل مجزرة الدامور، و أهمية حرق المدينة لتُفتح طريق صيدا-بيروت، أيلول الأسود في الأردن و مسبباته بالنسبة للملك حسين الذي لم يعد يحتمل تفلّت السلاح في بلده، إضطهاد المسيحيين، الظلم اللاحق بالفلسطينيين المدنيين... بالتواريخ، بالصور، بالمعلومات و التحليلات.

"القضية رقم23"، فيلمٌ لبناني وُلد عام 1975، ولا يزال يعاد تمثيله حتى يومنا في ال 2017، قال ما يجب أن يُقال، فيلم :حيث لا يجرؤ الآخرون.