إن من أكبر نِعَم هذا البلد ، أو بالأحرى من أجمل ما يُمكن أن يُذكر بتاريخه الثقافيّ، هو ذلك العلم ثلاثيّ الألوان بشعار المساواة، الأخوّة و الحريّة.

ها اننا نخسر اللهجة الفرنسيّة يوماً بعد يوم، وها باللكنة تضمحلُّ بفعل دهاء العولمة الأمريكيّة وسيطرة العم سام، لكننا لا نزال نستشعر و لو عن بُعد، الكثير من روافد الثقافة الفرنسيّة المزروعة بالتراب الفينيقيّ.

في كفرذبيان كان اللقاء، ولو كنت على جهلٍ حول سبب التجمهر هذا، لا يمكنك إلا أن تلاحظ نوعيّة الناس المتفرنسة ليس بالعطر و الماركات الباريسيّة و إنما بثقافة المعرفة و رقيّ الأنتظار بالصف و إحترام الآخر. إنهم اللبنانيون المتعطشون للحنٍ باريسي مُصاغ بقيثارة ال lyre النورمنديّة ، و العاشقين لحنين ماضي إعرابات الجُمل برونق أوروبا الفخمة. إنهم اللبنانيون المنتظرين لصعود شارل أزنافور على المسرح.

كبساطة أهل بلاد ال Gaule (في اشارة الى شارل ديغول)، و من دون تفاهات المقدمات، صعد شارل أزنافور على المسرح ليلغي حاجز العمر وحواجز عَُقد المجتمع الشرقي. هو البالغ من العمر ثلاثة و تسعين عاماً، وقف كاليافع في ريعان شبابه، و كما تقول أغنيته الشهيرة فعلاً، داعب الوقت و كأنه إبن العشرين ربيعاً. و على عكس فناني بلاد أخرى، حيث قناع الماكياج أقلّ كذباً من قناع الإدعاء، قال الحقيقة كما هي، إعتذر من الناس على حركته التي اعتبرها بطيئة، و ذلك بفعل تجاعيد السنوات التسعين، و صارح الناس ممازحاً عن جهاز عرض كلمات الأغاني أو ما يُعرف بالـ Prompter ، فهو وبحسب تعبيره يعاني من ضعفٍ في السمع وفي النظر و في الصوت. جلس على الكرسي بين الأغنية والاخرى، لكنه لم يتعب، غنى كل ما تعشقه الذاكرى و تحنّ إليه المشاعر، خاطب الناس مراراً و تكراراً يخبرهم عن تاريخ الأغنية و معناها و لم تفارق الفكاهة أحرفه المنتقاة بعنايةٍ و حركات جسده المنمّقة المتأثّرة بقصر فيرساي و عصر نهضة الحريّة.

"Mon ami mon Judas"، أغنية أراد أن يعبّر من خلالها عن مراحل صداقةٍ بائسة نَمُرّ بها جميعا، إستهلّ الاغنية بكلامٍ سريع عن الاشخاص الذين يأتون إلى حياتنا و يدخلونها بقوة، يتعرّون امامنا ليذهبوا إلى أشخاص أغبياء غيرنا من بعدها. تتحدث الأغنية عن الأصدقاء الذي يأتون إلينا من دون أن نسعى الى التقرب منهم، بابتساماتهم المزيّفة و تواضعهم الملتبس ، يأكلون كافيارنا و يبيعوننا بأبخس الأثمان.

الأغاني كلها معروفة، حتى الجديد منها، لأن الناس الآتية إلى واحدة من أعلى المناطق اللبنانية عن سطح البحر، قد جاءت بفعل محبةْ الفنان و غرام الفن. La boheme، بوهيميّة الإحساس و العمق، كأنها أغنية من صنع اليوم، من إبتكار اللحظة، من عصر الآن و وليدة الدقيقة الحاليّة، تعرفها الأجيال كلها وتتمايل عليها بأجساد و أرواح ميّاسة القدّ.
.Emmenez moi, Ave Maria, Mourir d'aimer, Il faut savoir, Hier encore, Comme ils dissent , Toi et moi هي ليست مجرد ريبيرتوار يتكرر من مسرحٍ إلى آخر، بل هي لائحة إبداعاتٍ تتجدد من مسرحٍ إلى آخر، صفّق الناس حتى امتلأ نسيم فقرا بوفاءٍ ديغوليٍّ لبناني. و المستغرب هو نسبة التنوّع في الأعمار بين الحضور، فلم يكن الشيب هو الصوت الأكثري لمن عاصروا فونوغراف الزمن الجميل ، و مرّوا على اللوفر بشغف الثقافة، لا بل الجيل الجديد الذي يمر على نوادي الليل الباريسيّة و لا يرى في فرنسا إلا طاحونة حمراء و عقاقير rue st denis . بدا أن الجيل الجديد متمسّكٌ بالمعاني العميقة لبلاد الكتاب و الأغنية.

فعلاً شارل أزنافور، كان اختياراً صحيحاً لمهرجانات فقرا، التي إبتسمت قلعتها لزائرٍ من قلاع الباستيد، و عرفت أن ما بين لبنان و فرنسا، تاريخ، ثقافة، فن، حياة، جميل، وفاء و....شارل أزنافور.

لمشاهدة ألبوم الصور كاملاً لحفل أزنافور في مهرجانات فقرا، إضغطهنا.