لقد بدأ الموسم الجديد من برنامج "أراب غوت تالنت" الذي يُعرض على شاشة الأم بي سي و ال بي سي. لن ندخل في تفاصيل الإنتاج والمهنيّة الكبيرة التي يتمتّع بها البرنامج. كما لن نغوص في جماليات العروض والإخراج والصوت. فال MBC هي مملكةٌ في عالم الإعلام، تُشرّع وتصنع قوانين إعلاميّة وتؤسس لكل جديدٍ، متخطيةً كل تقاليد الإعلام المرئي، كما أنها كاسرة لهيباتٍ وأوهامٍ بنتها بعض الشاشات العربية خلال فترة التسعينات من القرن الماضي. فأمست المحطة اليوم، هي أهمّ وجهة سياحية عالمية للعالم العربي، هي وجهنا الحضاري، إنفتاحنا، حرياتنا ولو المضبوطة، ثقافتنا المظلومة، سُمعتنا الحقيقيّة غير الملطّخة بمؤامرات التسويق الخاطىء. باتت المحطة منارةً للإعلام "القديم" المتجدد بخلايا الإبداع اليافعة.

النقطة التي يجدر الإضاءة عليها، وهي الأهم من كل المقدمات والشروحات النقدية الصحافيّة، هي أهميّة برامج الهواة والتسلية كلها ومن أبرزها "آراب غوت تالنت" في خلق مجتمعٍ لطالما حلمنا به في المجتمعات العربيّة منذ إنحطاط الثمانينات ولغاية يومنا الأسود هذا. فمن بعد أن أصبحنا كـ عرب جميعنا على لائحة الإرهاب وأولويّة الفوبيات في العالم، من بعد أن ترسخنا في ذهن الغرب بصورة الجمل والخيمة، بمشهديّة الذبح والقتل والحروب، ومن بعد أن سُوّقنا بأننا شاربو الدماء، وآكلو الحقوق. من بعد كل هذا البؤس الإعلاني، أصبحنا مصبوغين بصفة سمر الجبهات وأسود النوايا.

لكننا اليوم، إستنشقنا القليل من أوكسيجين الأمل طبعاً ليس في السياسة ولا في الإقتصاد ولا في الأمن المحتضر، لكن في الإعلام والفنون. وهنا يأتي دور هذا البرنامج في خلق نموذج للعيش، نفتقده منذ عشرات السنين، منذ لحظة نشأة الأنظمة الظالمة.

في "آراب غوت تالنت" لا طائفية، لا ذكر للإنتماء العشائري والقبائلي، المرأة تتمتع بنفس حقوق وفرصة الرجل، الأطفال لا يُعنفون بل يُدللون ويُعاملون بكمٍّ كبيرٍ من العواطف و المحبة. في آراب غوت تالنت، لا مدافع عربيّة بوجه مدافع أخرى عربيّة، لا مؤامرات سفارات ولا تنفييذ مخابرات. في آراب غوت تالنت لا تكفير، لا تذنيب لا تهديد ولا وعيد. لا شيء غير الحب والحب والحب.

فرقة "راب" للاجئين سوريين، ولدوا في توقيت الحرب العالمية الثالثة، غنّوا لكل ما خسروه من ماضٍ ومستقبل، فرقة دبكة دير الأحمر، من زمن السلم يخطون أقدامهم بثقة الإنتماء وبراعة التراث، فرقة غناءٍ من مصر المنتفضة دائماً على واقعٍ مرير، شابٌ لبناني أصمّ يرقص بحاسة المشاعر وأحاسيس الإبداع، فرق بهلوانية، سحر وخفّة، رياضة، موسيقى، والكثير الكثير من المواهب العربيّة المكبوتة بفعل ظلم المجتمع وقساوة الإقتصاد. نعم، إن أهمّ ما في برنامج آراب غوت تالنت، يكمن في نزعة الحريّة التي يمنحها البرنامج لأبناء يعرب، والأهم من ذلك كله، هي الصورة الجميلة الحقيقية غير المشوّهة بشظايا الحروب، الصورة الحقيقيّة للعربي العاشق للحياة، للضحك، للفرح، للمزاح، للتعبير عن مكنونهِ، عن أفكارهِ وأحلامهِ. إن ما تقدّمه قناة الا أم بي سي، ليس مجرد برنامج ترفيهي وإنما عالم ولو كان صغيراً يجتمع فيه إن في الإستديو أو في المنازل كل محبٍ لحياة الفن ولفن الحياة. تجمع إبن الخليج بإبن الشام، حفيد فرعون بحفيد الفينيق، لهجاتنا لم تعد فاصلة، هويتنا لم تعد مشرّدة، ما تفرّق في قمم الدول العربية عاد وإجتمع في إستديوهات ال أم بي سي. لا واسطاتٌ ولا محسوبيات، فالموهبة تثبت نفسها وهذا أمرٌ نفتقدهُ نحن العرب في طلب الوظائف أو حتى في تحصيل حقوقنا اليوميّة. فعلاً إنه عالمٌ نحلمُ به على أرض الواقع. عالمٌ لن ننتظره من "بني السياسة" بل نتمسّك بالفنّ فقط كخلاصٍ لنا.

​​​​​​​في زمن الأحقاد والتطرف، يخرج برنامج الهواة هذا كوميضٍ من أمل لعالم الإنفتاح و تقبّل الآخر، وهنا نرفع القبعة للجنة الحكم التي تلعب دوراً ممتازاً ليس في إحترام المشتركين فقط وإنا بمشاركتهم العواطف والمشاعر أيضاً. فنشاهد البرنامج، ونحن نفتخر بلغة الضاد المحكيّة على التلفزيون، والتي لا تحكي عن خبر إنفجارٍ من هنا و ولا تنشر صوراً عن ذبح طفلٍ هناك، وإنما عن مواهب رائعة تعلو فوق أصوات الحروب والفساد والتطرّف. في هذا العالم "الصغير-الكبير" هناك إنسانيّة هي الطاغيّة، محبّة متبادلة بين الجميع، تجتمع لتقول إن العرب ليسوا داعش، العرب هم صنّاع حياةٍ ومدمنو سلام . العرب لا ينتمون إلى تطرف، بل إلى وسع هذا الكون إنفتاحاً. "آراب غوت تالنت" أهم جبهة عسكريّة في وجه داعش.