أن تكشف عن مشاكلك لجمهور عام في عمل سينمائي هذا ليس أمراً سهلاً، أن تتحدث عن خلافك مع والدك التاريخي وتحاول معرفة السبب أيضاً أمر ليس سهلاً، لكن يبقى الأكثر صعوبة هو أن تنجح في شرح كل ما يحيط بك من مشاعر فرح وحزن، لحظات فشل ونجاح، أحاسيس حب أو كره، الشأن العام وتأثيره بالحياة الأسرية، غياب الثقة بالنفس، ذلك هو ما فعله المخرج المصري محمد رشاد بفيلمه السينمائي الطويل الأول "نسور صغيرة" الذي شارك في مهرجان دبي السينمائي 2016، وعرض نهار الجمعة مساءً ضمن فعاليات مهرجان أيام بيروت السينمائية في "صوفيل-أشرفية".

يبدأ الفيلم بصورة بطيئة، تعريف عن بطل العمل وهو المخرج محمد رشاد، وهو شاب لم يجد نفسه في الحياة، لم ينطلق بعد كما يجب، ضعيف الثقة بالنفس، وكان يعتقد أن الإسكندرية التي نشأ وترعرع فيها كما والده هي التي تعيق ذلك، هي الثابت الوحيد في حياته لو تبدل لتبدلت كل حياته.

الإسكندرية نفسها التي ترعرع فيها والده أيضاً تحبطه، كلما تذكر أنه لم يعش حياةً طفولية كما حياة صديقته "سلمى" وصديقه المقرب "بسام"، لم يكن قريباً من والده كما يجب، لم يتأثر بأفكاره، بمهنته، ولا حتى بموسيقى أم كلثوم التي كان يسمعها والده ويعشق صوتها.

حبكة العمل تبدأ عند هذا الصراع الخفي، يحمل رشاد كاميرته ويذهب الى والده في معمل الملابس الذي يعمل به "مكوجي" يفتح له الهواء، يبدأ يطرح عليه العديد من الأسئلة التي يريد معرفة جوابها ولم يتسنَّ له يوماً أن يتبادلها مع والدها لأنه دائماً خارج المنزل، يعمل لساعات طويلة ليؤمّن لقمة العيش، رغم أنهما يعيشان في منزل واحد بعد وفاة والدته وزواج شقيقاته.

يدخل رشاد الى العمل شخصيات محورية أثرت في حياته زادت من الهوة بينه وبين والده، وتلك الشخصيات "يسارية" تربت في دورات "نسور صغيرة" وهي دورات لأبناء اليساريين يأخذونهم اليها في العطلة الصيفية، ينشئونهم من خلالها على الفكر اليساري، وكان من بين هؤلاء الأطفال "بسام، وسلمى".

تعرف محمد رشاد إلى "سلمى" عندما قرر الهروب من الفشل في الإسكندرية، لينطلق من القاهرة، كان يبادلها الحب، وربما هي أيضاً، لكن اهتماماتها السياسية واحساسها بالفشل بعد الثورة المصرية وما آلت اليه الأمور جعلها متخبطة، كبسام تماماً وهو صديقها المقرب من أيام نسور صغيرة، فقررا في العمل أن يجريا نقداً شاملاً لما قدماه في حياتهما للشأن العام أمام كاميرا محمد رشاد.

كان رشاد يحسد بسام وسلمى على والديهما اللذين يملكان رصيداً سياسياً مميزاً، حيث كانا فاعلين في الشأن العام، مثأثرين بما حولهما، يحملان هم الوطن، يملكان رسالة عامة يسعيان لتحقيقها، سجنا لأجلها، تأثر فيهما بسام وسلمى، أما والده فكان بلا كل هذا، فقط يعمل ليؤمن لقمة العيش، لا اهتمامات أخرى لديه، سوى القليل من النوم كي يستطيع أن يعمل في اليوم التالي، لم ينقل لمحمد رشاد شيئاً من رصيده الفكري.

بدأ كلام سلمى وبسام يأخذ الطابع الإنهزامي، يعترفان بفشل سياسي عاشته مصر، وهما اللذان شاركا بالثورة وحلما أن تكون الأمور أفضل.. يشعران بالتعب يرويان ساعات سخطهما في "ميدان التحرير" وساعات حزنهما عند حكم الأخوان واليوم حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، يبدون عتبهم على ما آلت اليه الثورة، لكن في سياق كلامهما يعترفان بأنهما ليسا شخصين مستقلين، هما نسخة متجددة عن والديهما "محمود، وسعيد" اللذين لم يصنعا لهما شخصية مستقلة، بل وضعاهما في قالب يساري، غلبا في نفسيهما الشعور العام على الشعور الشخصي، فاهتم بسام وسلمى بالشأن العام أكثر من البحث عن شخصية مستقلة لكل منهما، ربما لم يبحثا أصلاً عن نفسيهما، ولم يسألا يوماً "من نحن وماذا نريد"، لم يعيشا طفولتهما كما يجب، فمن نعومة أظافرهما وضعا في "نسور صغيرة" واصبحا يشعران بأنهما مختلفان عن كل رفاقهما من سنهما في المدرسة والشارع.

يروى بسام خاطرته التي دونها والتي تكشف عن معاناته مع والده الخفية، يقول إنه "يريد خلع العباءة التي ألبسه اياها والده" لكنه لم يستطع، والمشكلة انه اكتشف ذلك بعدما أمضى سنوات يلبس تلك العباءة ولم يغزل لنفسه ثوباً مزخرفاً من الأفكار والأهداف، فإن خرج منها بان عارياً لا قيمة له.

سلمى تترد بالبوح، لا تملك صراحة بسام، بل تكتفي باعترافها أنا غير راضية عن شيء، أما سعيد ومحمود "والدا سلمى وبسام"، يستعرضان أمام كاميرا محمد رشاد نضالهما السياسي الكبير، ويعترفان في نهاية شهادتهما أنهما غلّبا الشأن العام على الشأن العائلي، فانعكس ذلك على ابنائهما.

يكتشف محمد رشاد في نهاية العمل أن والده ليس بهذه الصورة السيئة او المحبطة التي رسمها له، فبعد أن عاش معه في العمل يوماً واحداً وجد فيه الكثير من الطيبة، من الأفكار الجميلة التي لم يظهرها بسبب ضيق حاله المادي وسعيه نحو الرزق، لم يكن لديه متسع من الوقت ليجد نفسه، لكنه حاول أن يطحن ذاته ليؤسس عائلة متجانسة.

محمد رشاد يختصر لحظات حياته بـ77 دقيقة في نسور صغيرة، يخلط الشأن العام بالحياة الأسرية، يكشف تأثير الوضع السياسي على المنزل والأسرة، يتحدث عن الطبقية بكل وضوح، عن الحالة اليسارية المأزومة، عن الثورة الضائعة، عن الصداقة، عن الحب، وينتهي بمكسبين، أولهما أنه وجد نفسه وأنتج أول أفلامه الوثائقية الطويلة، والثاني أنه وجد والده وأنهى الخلاف الوهمي بينهما.