حلمي بكر من الملحنين الذين يملكون جرأة في الحوار ويقول رأيه الصادم والمباشر من دون نفاق أو تزلف لايمانه بأن قيمة الفنان الحقيقي لا تكمن بعطائه الفني فحسب بل لانتقاده السائد الذي يطغى على القيم.

.

بالقاهرة كان معه هذا اللقاء الصريح جداً.

لنتحدث عن مهرجان الموسيقى العربية الذي أقيم مؤخراً بدار الاوبرا بالقاهرة .

كانت دورته الـ25 أي اليوبيل الفضي لاقامة المهرجان الذي لا شك أنه مهرجان قومي تُقدم من خلاله التراثيات، وبالتالي كل ما هو جديد ومن جراء ذلك نستنتج الى اين نحن ذاهبون بالفن خصوصاً اننا نتطرق الى مسار الاغنية، والجديد بالمهرجان هذا العام اننا اعتمدنا على شباب الاوبرا، وكلهم أصوات رائعة ويجب الا نعتبرهم موظفين بالاوبرا بل من الضروري وضعهم في خط التقييم لدى الجمهور الذي كان منذ اول يوم أعلن عن إحياء الشباب للمهرجان حتى نفذت البطاقات، واستطعنا أن نجد لهم اي للشباب دوراً فعالاً بعدما أصيبوا بالاحباط كونهم كانوا لا يقدمون ولا يؤخرون، لسبب انهم جيل واعٍ يُدرك ماذا يُقدم، لكن جيل المستمع مختلف عنه تماماً وما أصلح هذا المسار هو تواجدهم بالمهرجان بالاوبرا حيث حضرهم جيل الشباب "السميعة" وليس "الهايص"، وكنت هذا العام أريد أن اضيف شيئاً على المهرجان وهو الجيل الشعبي من نجوم الغناء مثل محمود الليثي وبوسي كونهما يملكان صوتين رائعين ويستطيعان غناء أغنيات ام كلثوم، لكن ما دمرهما هو تقديمهما لاغنيات تحمل معاني رخيصة، وأكرر أنهما من اجمل الاصوات، وكنت قبل سنوات قد سمعت بوسي وهي تغني لام كلثوم وذلك حين قدمت من المنصورة وبهرتني، وفجأة تحولت اذ "رفعت الفستان مترين لفوق وطلعت لسانها وتفوهت باغنيات رخيصة لتلمع".

لكن أغنية "آه يا دنيا" نجحت نجاحاً ساحقاً بالوطن العربي .

"آه يا دنيا" أغنية جميلة جداً وقدمتها قبل أن تضلل بمسارها الفني، اذ قدمت بعد ذلك أعمالاً لا تليق بها في سبيل أن تجعل لحمها يغني وليس صوتها الرائع، واقول ذلك علناً لأني أريد انقاذها وتعديل مسارها تماماً مثل محمود الليثي الذي عمد الى الانتشار وليس الارتقاء، علماً أنه من أهم الاصوات وقد أعلنت ذلك في المؤتمر الصحفي للمهرجان وأجلت الفكرة للعام المقبل لأنفذها ان شاء الله، وبذلك اكون قد قدمت عملية تسلسل وربط بين الاجيال ونوعت للاذواق المختلفة ما بين القديم والحديث.

تشجع الشباب ومع ذلك انت متهم بمحاربتهم وتحديداً محاربة حميد الشاعري وإبراهيم عبد القادر

أنا؟ ابراهيم عبد القادر أصاب الاغنية بمقتل وليس له علامة ثم من هو ابراهيم عبد القادر؟ كل من يجد نفسه لا يصلح للغناء يتهمني بمحاربته، ولا أتذكر ان الأخ ابراهيم تقدم لامتحان بالاذاعة، وبالنسبة لحميد الشاعري فقد تقدم للاذاعة من خلال شهرته وامتحنته بنفسي ونجح وانتسب للنقابة وغيره من الشباب اعتمدتهم بالنقابة لاسمهم وشهرتهم رغم أنهم بلا تفاصيل فنية واضحة، لكن بلا شك حميد الشاعري موهوب جداً لكنه لا يملك الدراسة الموسيقية ولو كان دارساً لأصبح عملاقاً في عالم الاغنية.

كثيرون يلحنون بالاحساس والفطرة ولا يجيدون كتابة النوته ومع ذلك هم مبدعون تماماً مثل الكبير فيلمون وهبي .

استاذ فيلمون حالة استثنائية لن تتكرر بالوطن العربي، وألفتك إلى أني لو جمعت الجيل الحالي مع الجيل السابق سينال الأول علامة صفر، يعني حين اقول عبد الحليم حافظ واضع امامه عمرو دياب الثاني لن تكون النتيجة لصالحه، وبالمقابل بداية منذ انطلاقة عمرو دياب الى اليوم لا يوجد احد يضاهيه وايضاً حميد الشاعري يُعتبر رائداً لجيله لكن ليس بالنسبة للقيمة، وبالنسبة للذين يلحنون بالفطرة هو أمر جميل جداً شرط ان يتطور ويرفع مستواه تماماً مثل محمد الموجي الذي ما لبث ان دخل الاكاديمية ليدرس النوته، وايضاً الكبير كمال الطويل الذي درس الموسيقى المسرحية ثم عاد وانتسب الى الاكاديمية ليتعلم، وكذلك الامر بالنسبة لمحمود الشريف وحتى رياض السنباطي الذي تابع دروسه ثم تحول لاستاذ بالاكاديمية وهو يُجري امتحاناً بالعزف على العود لانه موهوب واضاف لنفسه الدراسة، وموهبة بلا دراسة عمرها قصير، ودراسة بلا موهبة لن تظهر.

ما رأيك بالمسرح الغنائي اللبناني الذي لا يزال مستمراً في لبنان؟

سأقول لك شيئاً، الشعب اللبناني رغم المأساة لما يحدث حوله وضده الا أنه شعب ذواق للفنون ويعرف كيف يعيش ويرتقي بالذوق حتى لو كان وضعه المادي متواضعاً، حتى بشكله وحواره هو أنيق، ومن هنا صار الفرد اللبناني مؤهلاً للتطور ومجاراة كل جديد يطرأ على الساحة وبالتالي الارتقاء به ليحرز التفوق، وبالنسبة للمسرح الغنائي فأنا سعيد جداً باستمرارية المبدع الكبير روميو لحود الذي اعتبره رمزاً فنياً كبيراً تماماً مثل الرحابنة، ومسرحيته "طريق الشمس" كانت تلقي الضوء على الأحداث الحاصلة بالوطن بقالب فني، الفن في لبنان هو تقدمي بمعنى أنه يعرض الأمور الحاصلة في الشارع اللبناني من على خشبة المسرح، وهذا الدور الذي يلعبه الفنانون أقوى من أي دورٍ سياسي، وانتم في لبنان تملكون سقفاً عالياً من الحرية، لكن المشكلة تكمن في سقف الفوضى والطوائف التي تتنازع، وسقف كل انسان يرى وطنه يحترق ويقف ساكتاً، على الكل أن يتفق أن يكون لبنان فوق الجميع. وأقول لروميو لحود أنت أحد الجنود الذين يعملون في المقدمة بأدواتك الفنية وفكرك المميز ولست وحدك في الميدان بل هناك كثر يعملون على غرارك ولو بلغة الصمت الذي يكون أحياناً بمثابة صرخة، كما سمعت ان الاخوين صباغ يقدمان أعمالاً جيدة مثل "ايام صلاح الدين" وسأحاول ان أستقدمهما من خلالك الى مصر انشاء الله.

برنامجك "عظمة على عظمة يا فن" الذي تقدمه على الفضائية المصرية تتناول به كل الرموز القيمة وتشدد على نجوم الغناء في لبنان .

طبعاً ومؤخراً قدمت حلقة عن وديع الصافي وتحديداً في يوم الشهداء بمصر وتعمدت اختياره لانه رمز وهو الذي تغنى بمصر بجملته الشهيرة "اذا قالت مصر لا فصدقوها"، كما ان آخر اعماله الغنائية لمصر كانت "عظيمة يا مصر"، وديع كان من سنوات طويلة ما أن يأتي إلى مصر حتى يُغني لها، بينما هناك من كان يأتي إلى مصر ويدعي الغناء لها باستثناء وديع الذي كان كل الشعب المصري يشعر انه واحد منهم، وعندما يعود إلى لبنان يتحول إلى لبناني صرف، بداخله الوطن الواحد المنقسم ما بين مصر ولبنان وسوريا، بإختصار هو ملك الأمة العربية وليس لبنانياً فقط لأنه صادق بأخلاقه وفنه.

أذكر أنك كنت أبرز المدافعين عن وديع الصافي عندما غنى ديو مع خوسيه .

صحيح، وديع ما إن وصل لمرحلة النضج الكامل حتى تخطى حدود التطريب وذهب لمنطقة قال من خلالها إن هذا الغناء مع خوسيه هو جذورنا الحقيقية من قبل 800 سنة، وكان الديو رائعاً كونه فلامينغو قائماً على السُدسية، وهذا إضافة لرصيد وديع الصافي العبقري، والمطرب الحقيقي هو من يظل يُغني حتى وهي تُلفظ أنفاسه، لذا صحة وديع كانت مُتراجعة في السنوات الأخيرة إلا أن حبه للغناء كان يتفوق على الوجع ويجعله يغني، ويفهم هذا الأمر كل من تعامل مع وديع الصافي عن قرب، ومن إستمع اليه بعلم وبحس.

وماذا عن حلقات الشحرورة صباح؟

الصبوحة أذعت لها بالمناسبات الوطنية الاغنيات التي قدمتها مثل "سلمولي على مصر" وتعلمين جيداً انها كانت صديقتي وأنجزت لها عدة الحان منها "بياع كلام"، الصبوحة كانت أسطورة تشدو وتُغرد تماماً مثل فريد الاطرش.

ما الفرق بين صوت وديع الصافي وصوت نصري شمس الدين؟

نصري صوت جبلي عظيم لكن يتفوق عليه وديع بالإعجاز الغنائي، نصري إنسان غنى فوصل القمة لكن وديع إعجاز غنى فخرج عن حسابات الزمن، وكلاهما لن يتكررا، وأقول لمن يفتي أن الغناء من المحرمات "حُرمت عليك عيشتك"، لأن الغناء هبة من الرب لوعاء إسمه إنسان ويخُص بها إشخاص مثل وديع ونصري وفيروز وعبد الوهاب وأم كلثوم هؤلاء نموذج للحياة ومن يُقلدهم يظل في ظلهم.

المصريون يعشقون "دار يا دار" دون سواها لماذا برأيك؟

-اللحن مصري لبليغ حمدي الذي هو مُلحن الحداثة، وتعامل مع العملاق العبقري وديع الصافي بتلك الأغنية، ومن هنا ذهبت "دار يا دار" لجيل الشباب وكم كنت أتمنى من الجيل الحالي أن يُعايش وديع كما حصل بالسبعينيات والثمانينيات وأعذروني عندما أقول العملاق العربي وديع وليس اللبناني لأني أعتبره ملكاً لعامة العرب.

(يتبع)
في الجزء الثاني يتحدث حلمي بكر عن نجوم الغناء أصالة وماجدة الرومي وملحم بركات ونجوى كرم ، وعن علاقة وديع الصافي بعبد الوهاب .