الفن في لبنان وبلداننا العربيّة مختصر بالحب و"عمايل" الحب، جرح البُعد وأنين الفراق، حلو الوفاء وعلقم الغدر، حنين الماضي ، روعة البكاء والندب على أطلاله، نختصر كل الأغاني بهذا الكمّ المسموح من التعبير عن الرأي ، فحتى الحب أصبح منّةً من المجتمع وأهل الحُكم، ببطاقتهم الخضراء يسمحون لنا بالتعبير عنه.

لكن لطالما كان الفن عبر التاريخ غير مكبّل بسلاسل المحدوديات وخطوط المسموح، وهنا ليس المقصود بالإنتماء السياسي والغناء لسياسيٍ أو زعيم، فهو الأمر الذي إعتدنا عليه خصوصاً في لبنان ، فالتعبير عن الإنتماء السياسي وتياره المبجّل هو ذنب مغفور بمباركة سيّد القصر ومالك المؤسسات الرسميّة والخاصة ، ولنكن عادلين، إن هذا الأمر طبيعيٌ حتى في البلاد المتحضرة كدول أوروبا والولايات المتحدة الأميركية التي شهدت مؤخراً على أغنيّة دعمٍ رائعة للمرشحة على سدّة الرئاسة هيلاري كلينتون ، وهي من غناء النجمة الأميركية العالمية رايتشيل بلايتين والتي حملت عنوان "أغنية النضال"، لذا و إن إعتمدنا على النموذج الأميركي الأكثر تطبيقاً لحرية الروح قبل الكلام، فإن الغناء لسياسيّ هو أمر طبيعي.

لكن، الحالة الإستثنائية في الخارج هي العامة هنا والعكس صحيح، فهنا الغناء الخارج عن نطاق الحب وخفقات القلب ورقّة الشعور ودموع الفيديو كليبات المذروفة على الحبيب كما على كلفة الإنتاج، يُختصر الخارج عن هذا المحور فقط الغناء لسياسيٍّ أو زعيم ، فالغناء لهذا النطاق الثاني يؤمّن مصروف الغناء في النطاق الأول. لن ندخل في الأمثلة لنحصي أسماء الفنانين الذين حملوا ريشة البويا وأتحفوا الزعيم بأجمل دهانٍ لامعٍ برّاق ، لكننا في إطار هذا الحديث نسأل "أين الأغاني التي تعالج مشاكل إجتماعية، إقتصاديّة، بيئيّة، تربويّة، معيشيّة، أرضيّة ، سماويّة حقيقيّة كانت أم وهميّة؟!".


الفن "رسالة" هذا ما يقوله كل فنان وهو ملتحفٌ ببودرة الماكياج تحت أشعّة الأضاءة التلفزيونيّة ، أو وهو مخدّرٌ بجوع الشهرة على مايكرفون إذاعة، أو غلاف مجلّة. كيف ذلك؟ أين الرسالة؟ وأنت تغنّي لتركب السيارات الفخمة، وتعيش كما الزعيم الذي تغني له؟.
يُمننا الفنان بفنّه وهو يتقاضى مبالغ توازي موازنات وزارات الدولة التي يعيشُ فيها ويشارك بتركيبتها الفاسدة من علاقات سريّة وعلنيّة مع رجال الحكم فيها .

لماذا لم نسمع حنجرة فنان وهي تُغنّي لأزمة النفايات ؟ لماذا لم يمسك أيّ فنان أو فنانة مايكروفوناً ليغنّي عن نسبة الفقر الذي تخطّى نسبة 40 % من الشعب اللبناني؟ أين كلمات الشعراء الجهابذة ليكتبوا أغانٍ عن المجازر البيئية التي تُرتكب بحق هذه الأرض المصابة بحمّى التصحّر؟ أين نوتات الملحنين ليلحنوا أغانٍ تحكي لسان حال 40% من الشعب المصاب بالسرطان وهي أعلى نسبة في العالم؟ أين جمال الفنانات المدعوم بإبر البوتوكس ولمسات النفخ والشفط ؟ لماذا لا ينزلن قليلاً عن مستوى السجادة الحمراء؟ ربما إن لامست أقدامهنّ الأرض سيشعرن بوجع هذه الأرض؟ أين الرسالة في الفن؟ الأمثلة الغربية كثيرة من "مايكل جاكسون" و "سيلين ديون" "بينك" "إلتون جونز" والمئات من الفنانين الأجانب الذي دعموا قضايا إنسانيّة تُشبه مجتمعاتهم البعيدة عن مطاعم الأرجيلة اليومية ، ورمي القمامة من نافذة السيارة.

زين العمر غنّى "الختيار" ونجوى كرم غنّت الهجرة و الظلم في "ليش مغرّب"، فارس كرم غنى "الغربة" و كارول سماحة غنّت "الطفولة" ، غسان الرحباني دعم البيئة، مروان خوري كتب ولحّن للصحوة بـ "قوم وقاف" و"الحدود" ، زياد الرحباني حارب الطائفيّة بأغانيه... نادر خوري غنى للفقر وشارك في كليبه أشخاص ذات بشرة سوداء..أمثلة قليلة عن فنانين إمتهنوا فنّ الإنسانية قبل المسارح وتصفيق المعجبين وعيش الأوهام على تويتر. هم وحدهم يستحقون لقب "الفنان" المكتوب على مانشيت، والمحفور في وجداننا ، وفي المقابل إذا فكر فنان بعمل فني إنساني لا يلقى تجاوباً من قبل وسائل الإعلام حيث أن غريس ديب غنت ضد الإجهاض ولكن لم يبث كليبها .

الفن في لبنان ليس رسالة، الفن "بيزنيس" يُلبس الفنان البدلة السوداء لينزل أنيقاً من سيارته الضخمة، ويؤمّن للفنانة كلفة التجميل لتبدو دائماً جميلة في أعمالها العامة و "الخاصة" ، الفن ليس رسالة إلا بهؤلاء من تعاطوا بإنسانيّة معنا وهم مطالبون بالمزيد.
الفن ليس رسالة إلا بصوتك يا فيروز، يا من تحكين بصوتك لغة الأرض و قضية الوجود، يا من صنعتِ لنا "فشّة خلقٍ" ملّحنة بنوتات الأنتماء ولم تغنّ لأي زعيم بل غنيت الوطن .
الفن رسالة، عندما يخرج عن صمته .