في مفرداته تغرّد آلاف العصافير، تحلّق في المسافات وتدور في الفضاءات فترسم صوراً وتنثر الحكايات قبل أن تركن إلى أعشاشها القابعة في المخيلة وفي أغوار الذكريات.

.. بين فواصله والنقاط، تلتقط الأرواح أنفاسها وتطرب لتلاوة الصلاة وترقص على صخب غيثارة المناجاة... في أفكاره قصيدة، وفي خواطره فلسفة، وما بين الفكر والخواطر إصطحبنا أنور أبو الحسن معه في رحلة ممتعة انطلقت من "المدخل إلى الفكر والفلسفة"، مروراً بمروج "ورد ورماد"، لنلقي رحالنا وأثقالنا وسط "ظلال" الذات بما فيها من شجن وعِبر وثورة وشهادة حياة.

بعد احتفاله بإصدار مؤلفه الثالث بعنوان "ظلال"، زار موقع "الفن" الكاتب والشاعر أنور أبو الحسن في داره في بتخنيه حيث كان لنا معه هذا الحوار...

نبارك لك إصدارك الثالث "ظلال"... ماذا تخبرنا عن أجواء حفل التوقيع؟
شكراً لكم ولاهتمامكم... بالفعل، تمّ حفل توقيع الكتاب في المركز الاجتماعي التابع لرابطة آل أبو الحسن في بتخنيه، وهو يعتبر من المراكز الأولى في الجبل إذ يحفل بالنشاطات الثقافية والاجتماعية كما أن القاعة التي شهدت المناسبة تعتبر الأفضل من حيث الإمكانيات والتجهيزات. حضر الحفل حوالي 400 من الأصدقاء والمحبين، في حين كانت المشاركة لافتة من قبل الفنان مارسيل خليفة الذي ألقى كلمة رائعة بالمناسبة كما أن مجرد تواجده يعتبر قيمة مضافة، كذلك الأمر بالنسبة إلى الفنان المخضرم جهاد الأطرش الذي تكرّم علينا بقراءة بعض الخواطر، و"أستاذ الأساتذة" الكاتب والمخرج د. جلال خوري، ناهيكم عن صديقنا الشاعر نزيه أبو الزور الذي ارتجل قصيدة من وحي المناسبة.

ألا يزال للكلمة المكتوبة قرّاء في أيامنا هذه؟
مع الأسف بات عددهم قليلاً. أتعاطى الكتابة منذ عشرين عاماً، ولطالما لمست شغفاً للمعرفة، وبخاصة للمواضيع الدسمة والتي لا تواكب يوميات الإنسان والغنية بالفلسفة والفكر والأدب وتطرح الأسئلة الكبرى التي تفرض نفسها في هذا الكون، لكن الناس اليوم لم يعد لديهم الاهتمام بالمعرفة كما في السابق، وباتوا ميّالين إلى الأمور السريعة حتى ضمن الكتاب نفسه، بدليل أن كتب الأبراج والطبخ والتجميل أصبحت الأكثر مبيعاً وطلباً في المعارض. الناس يتوجهون اليوم نحو القراءة السهلة والأمور العملية بعيداً من الأسئلة الكبرى وأسرار الوجود والكون والما ورائيات، كما يبحث البعض عن المردود المادي حتى أضحى الفكر بالنسبة إليهم عملية (إسترزاق)، وهذا ما يشكّل سبباً رئيساً في التراجع الثقافي الذي نعاني منه.

على صعيد شخصي، ما الذي يستفزّك للكتابة؟
أحببت تدوين الخواطر ولكن ببعدها الفلسفي، وليست تلك المتوفرة بكثرة في الكتب اليوم أي عن الحب والغرام، وكانت البداية منذ 12 عاماً مع كتاب "المدخل إلى الفكر والفلسفة" وهو خلاصة 6 آلاف صفحة أو أكثر من كتابات عدد كبير من الفلاسفة حيث استقيت من كل فيلسوف أو من كل نظرية فلسفية ما استخلصته ووضعته في صفحات عدة لتحفيز الإنسان على توسعة معرفته، فإذا ما أردنا الكتابة عن ديكارت مثلاً قد نحتاج إلى غرفة تعجّ بالكتب في حين لخّصته في أربع صفحات ذاكراً النظريات الأساسية التي ارتكز إليها وخلاصة الفكرة التي أراد إيصالها إلى الناس. ومن هنا، توجهت إلى كتابة الخواطر لأضمّنها ما سبق وأن استخلصته من أفكار وفلسفة بأسلوب أقرب إلى القارئ ويتلاءم مع مزاجه بعيداً من الفلسفة المباشرة التي يعتبرها البعض جامدة.

إذاً، هي خواطر فلسفية؟
نعم، إنها خواطر فلسفية وقد وجدتها رائجة بشكل كبير بدليل نجاح الكتابين اللذين أصدرتهما في ما بعد وهما "ورد ورماد" و"ظلال" حيث تناولت مواضيع متعددة تتعلق بالطبيعة والكون، الأم والأب وغيرها ولكن من منظار فلسفي.
لفتنا غلاف كتابك الأخير "ظلال" وهو عبارة عن صورة لطفلين متخاصمين في حين انعكاس الظلال يبرز لقاء راشدين. لماذا اخترت

هذه الفكرة ومَن كان وراءها؟
الفكرة من ابتكار ابنتي راوية وأحد أصدقائها ويدعى هيثم المصري وقد أعجبتني كثيراً، فمهما عاش الإنسان على هذه الأرض يبقى ظلاً. كلنا على هذه الأرض ظلال زائلة، مهما افترقنا ستعود ظلالنا لتلتقي مجدداً، ومن هنا ولدت فكرة الغلاف.

هل من الممكن أن يخاف الإنسان ظلّه أو ربما يصاحبه؟
لا يجب أن يخاف الإنسان من ظلّه لأن هناك الكثير من الأمور التي ترافق الإنسان كظلاله. أجد ظلي المرافق سيري تحت أشعة الشمس بمثابة انعكاس لشخصيتي، وثمة من يشبهه بالموت أو بالمقاييس المجرّدة كطول الإنسان وعرضه ففي النهاية نحن كلنا ظلال ومهما كافحنا في الحياة وأصبحنا في ما بعد تحت التراب لن يبقى سوى ظلنا الذي ما هو إلا الترجمة المادية للطيف. ظلالنا هي أطيافنا التي تبقى بعد فنائنا لتذكّر بأعمالنا وأخلاقنا وآثارنا.

ألا تغريك الرواية لكتابتها؟
أعترف أنني لا أستطيع الانفلات من جو الفلسفة والفكر والتاريخ، أما القصة والرواية فهما مطلوبتان في أيامنا هذه لكنني لا أجد نفسي فيهما، فأحداثهما قد تكون حقيقية ومجرياتهما حدثت في مكان ما وزمان ما. الفلسفة فيها إبداع، وهذا ما يستلهمني، وذلك على الرغم من المحاذير والقيود الفكرية التي تطال بعض الأمور بخاصة تلك المتعلقة بالما ورائيات.

من يلفتك بكتاباته الفلسفية اليوم أو ربما من الأجيال السابقة؟
يلفتني بل يستفزني كل ما هو خارج عن المألوف في فهم الأمور. برأيي، يحتاج الدين بعد 1500 أو ألفي عام إلى التطوير ليتلاءم مع العصر لكنهم لا يريدون ذلك ولا مصلحة لهم بذلك لأنهم يستغلّونه. في ذلك الوقت، ثار الناس على الأصنام فلماذا نرتضي اليوم أن نكون أصناماً فكرية؟ لذا أنا من دعاة فصل الأمور الدينية عن الحياة. سألني أحدهم: أنت عَلماني وبالتالي تدعو إلى فصل الدين عن الدولة؟ أجبته: بل إلى فصل الدين عن العقل بأكمله ولكن باحترام. وتصديقاً لكلامنا، ما ورد ذكره في كتابي أيضاً عن لسان الإمام الصوفي البيروني: "إن الله أنعم على العالمين بمعرفته وتخلّى عن الجاهلين لعبادته"، بمعنى أن معرفة الله هي الأساس. من هذا المنطلق، أؤكد أنه لا يوجد لدي خلاف مع الدين كجوهر بل أجلّه وأحترمه، لكنني أتمنى في المقابل المبادلة بالمثل.

علمنا أنكم تعملون على مشروع جديد يتعلّق بخالك الفنان الراحل نبيه أبو الحسن أو "أخوت شانيه". ماذا تخبرنا عنه؟
نحن مجموعة من الأشخاص من مختلف الميادين الفكرية والفنية وغيرها تلقينا وعداً من الكاتب والمخرج الكبير د. جلال خوري، الذي كان أول من قام بتأسيس المسرح السياسي في لبنان ومعه خالي منذ "جحا في القرى الأمامية" قبل "أخوت شانيه"، بوضع يده معنا ومن المفترض أن نقوم بتأسيس لجنة وطنية لتكريم نبيه أو الحسن وذلك بالتنسيق مع الدولة والوزارة المعنية لتحمل طابعاً رسمياً يليق بالمكرّم وتاريخه.