لعلّ أبرز ما تحتاج إليه سوريا والشعب السوري الحبيب في هذه الأيام هو قليل من الصدق، ربما يقي البلد من الآلام والعذاب.


يا لها من نشوة رجولة، وجرعات من هرمونات تيستوستيرون، عند مشاهدة تلك المسلسلات السورية، التي تروي لنا حياة الناس في فترة الإنتصارات والبطولات، في أزمنة غزا فيها أهل العرب بلاد أوروبا والأميركيتين وأغرقوها بالعلم والنور والمعرفة. يا له من إنتصار على عقدنا الجنسيّة، عندما نشاهد ذلك الرجل مفتول العضلات ومفتولَ الشنب، حين يهزم جبروت المرأة تحت أقدامه ويتحكّم بعنق زوجته، أمّه، وبناته. يا لها من مسلسلات مفيدة للعقل والروح، عندما نشاهد الرجل يصرخ بـ"يللا يللا" تحاشياً لإستفاقة شهواته الجنسيّة في حال رؤية طرف ثوب إمرأة يلامس الأرض.

فعلاً، إنها مسلسلاتٌ نفتخرُ من خلالها بماضٍ، إستعبدنا فيه النساء كجاريات في المنازل، بدل تعليمهن في مدارس والعياذ بالله، زمنٍ رفعنا أولادنا بالفلقة، بدل أن نرفعهم بالكيان المستقل، زمن جرن الكبّة وأجران الكبت و العبوديّة.
لكن أكثر ما يستفز في هذه المسلسلات هو تشويه الحقائق في ما يخصّ فترة الإنتداب الفرنسي في تلك الفترة، والتي تصوّرها المسلسلات السوريّة على أنها فترة ظلم وقهر وإغتصاب نساء، تعدّ على أملاك ورفع مشانق، وطبعاً نفخُ عضلات في مقاومة الفرنسيين، بما في ذلك نفحةُ أمل لتاريخ متعطش لإنتصارات طال إنتظارها.

يبدو أن المسلسلات السوريّة أضاعت البوصلة، وأنها أخفقت في التمييز بين رجال ديغول ورجال جمال باشا، أو أنهم لم يميّزوا بين "البونجور" وال "ادب سيس"، إن المحتلّ التركي هو من علّم العرب لأكثر من ثلاثمئة سنة فنون المخابرات، لعبة الفلقة وحرفيّة "الخازوق"، الإحتلال التركي هو من رفع المشانق وأضرم الجهل في عقول الناس وألهاهم بسفر برلكه، بسخرته، وسرقة كسرة الخبز من أفواهِ الأطفال.


صحيح أن الإنتداب الفرنسي كان إحتلالاً لأراضينا بخطوط "سايكس بيكو"، لكن نودّ إبلاغ منتجي وكتّاب الدراما السوريّة، بأن الفرنسيين، زرعوا بذرة الدساتير في المنطقة وفق الجمهوريّة الثانية لأم الثورات، هم من بإرسالياتهم وضعوا مناهج التعليم، فتحوا المدارس ولقّنوا الناس أصول الحرف والكلمة.
ولتذكير جهابزة الدراما، فإن الأخوين رينيه وريموند دانجير وبالتعاون مع المهندس ميشال إيكوشارد، هم من وضعوا خطط التنظيم المدني لأهم المدن السوريّة، ومعهم عرفت البلاد نهضة عمرانيّة ضخمة، ما زالت معالمها ظاهرة حتى الآن، رغم وجع المدافع. بنوا الجسور، الأنفاق، مراكز علم الآثار، وهم من عملوا على مدّ أول خطوط للكهرباء عرفتها هذه الأرض. عرفت دمشق الترامواي الأول معهم، والذي ربط مناطق ببعضها، مناطق كان العثمانيون هم من قطّعوا أوصالها. الفرنسيون، فتحوا مراكز لتعليم النساء الخياطة، التطريز، الصناعات اليدويّة، كما أنهم هم من طوّروا وسائل الزراعة و الريّ. كتب بيار لا مازيير سنة 1932 عن تصاعد الحركات الفكريّة في سوريا في تلك الفترة، كما عن إزدياد كبير في المنتديات، دور النشر، المطابع والفرق الرياضية التي عملت جميعها تحت سقف حريّة، أخوية، وعدالة لم تعرفها البلاد من قبل، في بلاد تندب على قبور عثمانية أو على توابيت المماليك.

الفرنسيون بنوا مرفأ اللاذقية، وإستثمروا في تنشيط الحركة التجارية فيه، كما ذكر بيار أن المساحات الزراعية التي ساعد الفرنسيون في زراعتها و تطويرها قُدّرت بحوالى الـ700 الف هكتار، ووصل عدد الطلاب في سوريا إلى 180 الف، كما أسست فرنسا كليات مختلفة من أهمها كلية الطب في دمشق وذلك بدعم كبير من مؤسسات باستور الفرنسية ... هذا بالإضافة إلى إنجازات كبيرة في وضع قوانين القضاء، الأمن، وتأسيس الأحزاب.

كلها أمور، لا تظهرها تلك المسلسلات التي تصوّر جهابزة المدافعين عن شرف النساء ورامة الشوارب، كلها أمور لا تذكرها المسلسلات السوريّة، لأنها لا تفتح أيّة شهيّة ذكوريّة، ولا تنعش وطنيّة ماتت بفعل أزمنة الأزمات. الإنتداب الفرنسي ليس كما يظهر على الشاشات، فما نتمتّع به اليوم من حريّة تعبير بما فيها حرية تلك المسلسلات هي نتيجة هذا الإنتداب.
فنتمنى عدم تحريف الحقيقة، لأن الحقيقة وحدها هي الباقية، فيما المسلسلات ولو طالت إلى جزء عاشر أو ما بعد الألف، ستزول بفعل بخار الوهم.