كما يكون الفن، تولّى عليه جوائزه.

هذه المقولة تعيشها الأغلبية الساحقة من أهل الفن والصحافة وما بينهما. جميعهم يرتدون أغلى الفساتين والبدلات المُستعارة في معظم الأوقات، يخفون بالماكياج عيوب الوجه من إصفرار جوع الشهرة، نتوءات النفاق ، وحُفر الوجه المستشرية وحُفر الروح المستعصية. ينتعلون أحذيتهم الموقّعة بماركاتٍ مقلدة ، ويمشون على سجادةٍ حمراء تفصلهم عن الأرض، فهم أكثر من يخافون أرض الواقع وألم الحقيقة المرّة. تتجهّز الكاميرات، يتسلّح الصحافيون المدعوون بألسنة إضافية لزوم النقيق، والوشوشات والكثير من "اللقلقات"، لوائح الأسماء جاهزة، كجهوزيّة شيكات شركات الإعلانات، المنتجين، والداعمين المنظورين وغير المنظورين. يُسخّن العشاء، لإشباع البطون في إنتظار إشباع جوع "الأنا"، وما أكثرها. إنها حفلات الجوائز في لبنان والمشرق العربي المتطوّر سياسياً ، إقتصادياً، إجتماعياً وطبعاً فنياً.

سهرات هرجٍ إعلاني ومرجٍ إعلامي، إجتماعاتُ لجانٍ كصبحيات النساء على شرفةٍ وركوة قهوة، فالإجتماعاتُ هي للمنظر والمناظرة، من يجيد "فلسفة" الكلامِ أكثر، ومن يدير علاقات "خاصة" أكبر. إجتماعاتٍ لا تخلو من أقنعة بلاط "فيرساي" ، إبتساماتٍ بلاستيكيّة، مجاملاتٍ "بروتوسيّة"، وإختياراتٍ وفق مصالحٍ شخصيّة. ولكي تكتمل المسرحية، لا بد من تصويتٍ عبر وسائل إعلامٍ تزيّن فيترين العمليّة الفنّية.
كل هذا طبيعي، في بلادٍ لا تعرف لا ديمقراطية ولا حريّة، فكيف نتنتظر جوائز محقّة عادلة، في بلادٍ يُعيّن فيها الوزير، و النائب، و الرئيس، و الحاجب و القواّد، و الظالم وفق أوامر خارجية، و بمظلّةٍ تُسقط علينا يومياً "أمراً واقعاً" في كل مجال. لذا لن يُستثنى الفن من هذه القاعدة الذهبية، شأنه شأن كل مجالات المجتمع الأخرى، الأمر لصاحب الأمر ، للحاكم بأمر الله، وبأمر المنتج من بعده.

في بلاد العم السام، بلد الإمبريالية والظلم والكفر والإلحاد، للجوائز الفنّية قاعدٌة تعرف الديمقراطية كما نعرف نحن "الأراكيل".
على سبيل المثال لا الحصر، جائزة الموسيقى الشهيرة "غرامي" ، وهي جائزة تديرها الأكاديمية الوطنية لعلوم الموسيقى NARAS ، والتي أقامت أول حفل للتكريم الموسيقي عام 1958 ، ومن دون أن ندخل في تقسيمات الجوائز والفئات الموزّعة، نكتفي بذكر الطريقة العلميّة في إختيار الفائزين. جميع شركات الإنتاج و العاملة في حقل الموسيقى المُسجّلة في الأكاديمية الوطنية الأميركية ، من دون إستثناء ولا إقصاء، يحق لها أن تشارك في عمليات التصويت وإبداء الرأي ، والتواصل مباشرةً أو عن طريق الإنترنت مع لجنة خبراء مؤلفة من 150 شخصاً من كبار الأخصائيين في عالم الموسيقى، وليس كما الحال عندنا، يدخل الأخ والأب والخال والحبيب والعشيق ضمن اللجان.


بعد إلتئام اللجان والخبراء، يتم تقسيم الأعمال وفق الفئات ، ومن ثم يبدأ التصويت لترشيح الأعمال وفق آليات متطوّرة جداً ، تأخذ بعين الإعتبار كل المعطيات (نسبة مبيعات على الإنترنت- نسبة مشاهدة- نسب العرض و تكراره- النقد الصحافي الإيجابي والسلبي- دراسات من نوع العددي والرقمي إلخ...).

ومن بعدها تصدر نتائج الترشيحات، يتم إعلان الأسماء في الإعلام لكي تتحضّر لحضور الحفل. من بعدها تقوم واحدة من أعرق وأهم شركات الإستشارات المالية والتسويقية والضرائبيّة والتدقيق المالي في العالم وهي شركة "ديلويت" بالإشراف على عملية التصويت في الأكاديمية الأميركية لعلوم الفن.
أما في جائزة الـ"أوسكار" فالطريقة متشابهة كثيراً مع إختلاف في الحكام، الذين هم بأغلبيتهم من الممثلين والمخرجين والموسيقيين المحترفين، تتمّ العملية بتنفيذ من الأكاديمية العالية لعلوم السينما AMPAS وتحت إشراف واحدة من أهم شركات التدقيق و الإستشارات في العالم PWC .
مع الإشارة هنا إلى أن للشركتين المذكورتين ، فروعاً في لبنان والشرق الأوسط وهي تضم في جعبتها أهم وأكبر الشركات المالية والإقتصادية ضمن دفتر زبائنها.


لكن للفن في لبنان حسابات مختلفة، لا تحتمل تدقيق الشركات وإشراف المختصين غير المرتشين. في لبنان، اللجان و القيمين على الحفل و أقربائهم في الوطن و المهجر هم من يقدّمون الجوائز على المسرح، لغاية في نفسِ الحسابات، في لبنان يحضر الرابح مع سابق الإصرار و التصميم والمعرفة، فلا لزوم بأن يكلّف نفسهُ المجيء في حال أن زميله هو من سيربح ، فالتصفيق للزميل متعبٌ لأعصاب اليدين، وهالكٌ للـ"أنا" ، في لبنان للتلفزيون الراعي حق دستوري بإختيار الرابحين المحسوبين عليه، وخصوصاً في فئات المسلسلات المعروضة على الشاشة، لأن أهل البيت أولى بالجائزة وبالرايتينغ المبتغى.
في لبنان، للعشيق إمتياز إعتلاء المسرح وتقديم الجائزة، في لبنان تلطيش للجارة والكنّة في إلقاء كلمات المنبر، في لبنان شحذٌ ذليلٌ بتكريمات الكبار ، في لبنان إقطاعية في القيمين على حفلات جوائز التكريم، فهي كما الكرسي الوزارية ، ملك لأرستقراطيي البلاط، في لبنان وزارة سياحة في العناية الفائقة، وصحافة في القبر.
في لبنان، فساد في السياسة ، في المجتمع، في التربية، في الرياضة، في الفن.
وكما يكون الفن، تولّى عليه جوائزهُ.