قبل الأوان انتهت حكاية الشابة ميلاني فريحه 25/7/1996 - 1/2/2015.

.. انتهت بفاجعة... صارت وعداً لم يكتمل... وسط لوعة الأهل وأسى كل من عرفها وعايش طموحاتها الكثيرة... حتى الذين لم يسعفهم الحظ بالتعرف اليها، فانهم ادركوا قيمتها من خلال ما قرأوه عنها في الصحف، ومن خلال الكتاب المميّز الذي تداعى اصدقاؤها لوضعه عنها وتم توزيعه في الذكرى الاربعين لغيابها. بدورنا، وتخليدا لذكرى الشابة ميلاني وتعميما لتجربتها، التي تصلح لان تكون نموذجا يهتدي به الشباب اليوم، ننشر هذه الحلقات علّنا نفي الفراشة التي رحلت قبل الموعد بعضا من حقها.

ما الزهرة اليافعة التي، وإن غادرتْ الحقل تبقى رمزاً للعطر والجمال، وكما الفراشة الملونة التي، وان احترق جناحاها بنار غير منتظرة، تظل مثالاً للرشاقة ونضارة الألوان... هكذا ميلاني فريحه التي، وإن غادرت على حين غرّة، تظل رمزاً لجيل كامل من الشباب المندفع للحياة المقبل على العصر الحديث من بوابة العلم والموسيقى والحس الإنساني المرهف...

انها ميلاني فريحه، التي لو لم تغادر كالفراشة فجأة او كزهرة الحقل النضرة، لكانت تحتفل اليوم مع اهلها ورفاقها ومحبيها، وهم كثر من دون اي شك، بعيد ميلادها التاسع عشر. فصارت الشموع... هي التي انطفأت فجأة هنا، لتشتعل في مكان آخر ولتبقى مضاءة منيرة في قلوب كل من عرفها ورافقها واحبّها، من الوالدين المفجوعيْن، الى الأختيْن اللتين لا تزالان تحت الصدمة، الى الصديقات والاصدقاء الذين يتذكرون سنونوة الربيع، ميلاني، التي كانت تُدخل الى قلوبهم الفرح البريء بضحكتها الدائمة وبديناميكيتها التي تتخذ في كل يوم الف مشروع ومشروع، الى رفاق المدرسة في سيدة الجمهور، فزملاء الجامعة في كلية الهندسة - الجامعة الاميركية... كلهم لم يستيقظوا بعد من الصدمة والدمعة التي تنسكب، من عيونهم لمجرد تذكُّر ميلاني، فهي باقية الى الأبد في القلوب... كل القلوب من دون استثناء.

وقصة ميلاني فريحه تُروى من دون شك، ليس فقط لأنها حرقت قلوب محبيها حين غادرت، ولكن لأنها تمثل جيلاً كاملاً من طموح الشباب الجاد، والذي يعرف كيف يجمع بين الجدية في الدراسة والافكار وحب الحياة والاقبال عليها بفرح شديد.

فمنذ كانت ميلاني طفلة صغيرة كانت بشائر النباهة تبدو عليها. في البيت، مع الاهل والأقارب ومع الجيران... وحين دخلت الى مدرسة سيدة الجمهور، وهي واحدة من أرقى المدارس الخاصة في بيروت واكثرها عراقة، بدأت تلك النباهة تشهد ترجمتها الفعلية في العلامات التي تحصل عليها وفي النتائج التي تحققها، هي دائما في المراتب الاولى من حيث الترتيب، وغالباً ما كانت تحتل المرتبة الاولى في صفّها وتحصل على درجة الامتياز. لذلك حين قررت في نهاية مرحلتها المدرسية ان تختار اختصاصاً لا يبرز فيه الاّ المتفوقون توجهت الى دراسة الهندسة المدنية في الجامعة الاميركية. ومعروف ان هذه الجامعة لا توافق إلا على الطلاب المميزين ليلتحقوا بالاختصاصات الدقيقة فيها. وكانت كل البشائر توحي بان تفوّق ميلاني في المرحلة المدرسية سيستمر ويتكرّس اكثر في المرحلة الجامعية. لكن القدر خطف الفراشة على غفلة ووضع نقطة نهاية مأسوية لانطلاقتها المتفوقة...

ميزة ميلاني فريحه انها كانت تجمع النقيضين في شخصيتها المميّزة. ففي العادة يكون الطالب المتفوّق منصرفاً الى الدراسة فقط، فيُصاب بالجمود لانه يكرّس كل وقته للكتب ويهمل نفسه. أما حين تتعدّد اهتمامات الطالب الاجتماعية فينصرف الى الحفلات والشؤون الحياتية المختلفة، فانه يعجز عن تحقيق التفوّق. ميلاني فريحه تمكّنت من ان تكون بارزة في دراستها، ومن ان تعيش حياتها، كما يناسب عمرها، فتتعدّد هواياتها واهتماماتها. الجديّة، اذن، ليست نقيضاً للمرح ولحب الحياة. وميلاني فريحه كانت خير مثال على ذلك، حتى أصبحت مثالاً اعلى لابناء وبنات جيلها، ونموذجاً يتمنّى الكثيرون منهم لو انهم يستطيعون التشبّه به.

اول اهتمامات ميلاني فريحه كانت الرياضة. منذ سنواتها الدراسية الاولى كان واضحاً انها تميل الى الرياضة بكل انواعها المتاحة امامها، لا سيما في نادي مدرسة الجمهور. فقد حطّمت ارقاماً قياسية في مدرستها في الجري وفي تخطّي الحواجز وفي القفز العالي ووصلت في تفوقها الى ان تحصد ما لا يقل عن سبعين ميدالية... من الركض الى القفز العالي والجمباز والتنيس كذلك فان السباحة من هواياتها والمشاركة في ماراثون بيروت. كلها محطات برعت فيها تلك الشابة الواعدة ميلاني فريحه، ما أوصلها الى التفوق في بطولات غرب آسيا لفئة الشباب... يومها تكلمت عن تفوقها الصحف المحلية التي اجمعت على ان ميلاني فريحه امل حقيقي للرياضة اللبنانية...

حتى التزلّج فقد مارسته ميلاني بروح احترافية وان كانت قد حرصت على ان يبقى ضمن هواياتها... مع الاسف كانت هواية مشؤومة لان ميلاني اخذها الابيض الكبير الى الأبد!

وفي هواية متصلة بالرياضة اجتذبت الحياة الكشفية الشابة ميلاني فريحه، والحياة الكشفية تعني الطبيعة والتعاون والاعتماد على النفس وروح الجماعة المنظمة ومبادىء التضحية والمساعدة... وكلها خصال كانت متوافرة في شخصية ميلاني ما جعلها تستمتع مع رفيقاتها

في الحياة الكشفية وتصل فيها الى مراتب قيادية ضمن فئتها العمرية.

اما الموسيقى فكانت الرفيقة الدائمة لميلاني التي برعت في العزف وانطلقت تكتب اغنيات تعبّر فيها عن عواطف الشباب وعن حب الحياة والإقبال عليها... والسهرات الكشفية شهدت عزفا رائعا من ميلاني وغناء معبّرا ما يزال رفاقها يتذكرونه حتى الآن، بحنان كبير وبإعجاب شديد. ولم تكن ميلاني فريحه تتردد عن حضور الحفلات الموسيقية كلما سنحت لها الفرصة، في لبنان وفي الخارج، ما جعلها مطّلعة بشكل كبير على فنون العزف والتوزيع الموسيقي...

ومن ضمن هوايات ميلاني ايضا وايضا التصوير... وأخذ اللقطات المعبّرة يحتاج من دون شك الى عين ناقدة والى ذوق رفيع. وقد برعت ميلاني في هذا الى حد بعيد. والصور التي كانت تلتقطها بعدستها الحساسة تركّز بشكل كبير على الطبيعة ليس كمنظر جامد، ولكن كلوحة موحية يمكن ان يعبّر بها الفنان عن احاسيس مرهفة تعجز الكلمات عن الوصول اليها.

وليس التصوير العادي وحده هو ما شغل ميلاني في هوايتها تلك، انما كذلك صور السيلفي، مواكبة لحداثة جيلها، حيث صوّرت ميلاني نفسها بكل ما عندها من مرح الحياة وطرافة الشباب وحب الضحك... انها تجربة فنية طريفة مارستها ميلاني في حياتها اليومية العادية وكأنها كانت تعرف ان تلك الصور الضاحكة ستكون كنزاً ثميناً لأهلها ولأصدقائها، اذ تخفّف عنهم هول ما سيحدث لاحقاً لصاحبة تلك الصور الطريفة! وdown.theroad الذي اطلقته ميلاني ويتابعه الاهل والرفاق يساعد كثيراً في متابعة تميّز تلك الشابة التي كانت في عز انطلاقتها حين خطفها القدَر.

كل هذه الاهتمامات والهوايات التي مارستها ميلاني فريحه لم تنسِها الجوانب الانسانية، ذلك ان الفراشة الراحلة كانت بالغة الحساسية تجاه كل ما يمكن ان يتعرّض له الانسان من ضعف واوجاع. لذلك كانت تخصّص بعضاً من وقتها للاهتمام بالحالات الانسانية الخاصة، من مثل مساعدة المعوّقين ومواساة المسنين المتروكين الذين قست عليهم الحياة ولم يجدوا مكانا يسندون اليه الرأس، او يداً تحنو عليهم او ابتسامة تزرع الدفء في قلوبهم، التي غزاها البرد من كل جانب. ميلاني الشابة المفرطة الحساسية كانت لهم تلك اليد والابتسامة. انها الرسالة الانسانية التي غالباً ما لا يتوقف عندها ابناء جيل ميلاني المأخوذون بضوضاء الحياة وصخب الشباب. لذلك كانت ميلاني علامة فارقة على هذا الصعيد. وتجربتها الرائدة في هذا المجال تصلح لان تكون مثالاً يحتذي به ابناء جيلها فيتمكنون من جمع الخصال الحميدة في شخصيتهم الواعدة: تفوّق في الدراسة، وهوايات تحفظ الجسم وتقوّيه وتنقّي الروح وتطهّرها، واهتمامات انسانية تعطي لحياتنا قيمة...

انها ميلاني فريحه التي جمعت في شخصيتها الشفافة كل هذه المزايا... لذلك يفتقدها الآن كل من عرفها، من عائلة مفجوعة، الى رفاق طالما اعتزّوا بزمالتها في المدرسة، كما في الجامعة، الى اصدقاء ازدادت معرفتهم بشخصيتها المميّزة بعد الرحيل.

في الحلقة المقبلة:

ميلاني فريحه: زهرة البيت الضاحكة

تكريما لذكرى ميلاني

بعد غياب ميلاني المأسوي، تتالت خطوات تكريمها والوفاء لذكراها لاسيما في المجال الرياضي الذي برعت فيه وحققت من خلاله انجازات واحرزت جوائز. فقد عمد اتحاد العاب القوى الى اطلاق جائزة هي كأس ميلاني فريحه. كذلك خصص ماراثون بيروت جائزة ميلاني للشباب في سباق الـ 5 كلم. اما مدرسة سيدة الجمهور فقد اطلقت في اعالي حمانا ما اسمته Espace Melanie Freiha على مساحة 150 الف متر مربع من ضمنها مساحة مخصصة للقاء الشباب وتكرّس العلاقة بين الجيل الصاعد والطبيعة. علما بان المدرسة قد خصصت يوماً كاملاً للاحتفال بعيد ميلاد ميلاني فأقامت نشاطاً مخصصاً لرياضة الروكبي واستقدمت 3 فرق موسيقية لاحياء عيد ميلاد ميلاني. كذلك فان خطوات عملية اساسية قد تمّت من اجل اطلاق جمعية ميلاني فريحه التي تُعنى بالشباب.