برعاية وزير الثقافة الأستاذ ريمون عريجي وحضورِه، وبدعوة من المعهد العالي للموسيقى في الجامعة الأنطونيّة، مجدليّا-زغرتا، وبالتّعاون مع "بيت الموسيقى" في جمعيّة النّجدة الشّعبيّة اللّبنانيّة، وفي سياق ذكرى رحيل سامي الشوّا (1885-1965)، أمير الكمان العربيّ ورائد النهضة العزفيّة المشرقيّة العربيّة، وبحضور الأباتي أنطوان راجح، ورئيس الجامعة الأب جرمانوس جرمانوس، وأمين عام الجامعة الأب جو بو جوده، ومدير فرع مجدليا-زغرتا الأب فرانشسكو الخوري، والنائب نضال طعمه، وبحضور فعاليّات موسيقيّة وثقافيّة وسياسيّة واجتماعيّة ومنظّمات المجتمع المدنيّ في المنطقة، أحيا كلّ من البروفيسور نداء أبو مراد والدّكتور هيّاف ياسين أمسية موسيقيّة من الارتجال العزفيّ المنتمي إلى رحم تراث عصر النّهضة الموسيقيّة المشرقيّة العربيّة على مسرح الجامعة الأنطونيّة، مجدليّا-زغرتا.

البداية، كانت مع النّشيد الوطني بحلّة مشرقيّة من مقام الرّاست على دورة السّماعيّ الثّقيل، ثمّ رحّبت بالحضور عريفة الأمسية الآنسة ماري دحدح (منسّقة المدرسة الموسيقيّة للأباء الأنطونيين في فرع مجدليّازغرتا). بعدها تمّ عرض فيلم وثائقيّ عن سامي الشّوّا أعدّه وأخرجه ونفذّه البروفيسور نداء أبو مراد (مدير المعهد العالي للموسيقى في الجامعة الأنطونيّة). تضمّن الوثائقيّ معلومات عن المسيرة الموسيقيّة الخاصّة بسامي الشّوّا ككمانيّ كبير، كما أضاء على دوره في تكوين تقليد موسيقيّ عزفيّ ارتجاليّ النّزعة ومستقلّ عن الغناء، وذلك من ضمن تيّار النهضة العربيّة التّجدّديّ المتأصّل.

بعدها كانت كلمة للدّكتور هيّاف ياسين (المدير الأكاديميّ للمعهد العالي للموسيقى في مجدليّازغرتا ومدير عام "بيت الموسيقى" في النّجدة الشّعبيّة اللّبنانيّة) أشار فيها إلى دور "بيت الموسيقى" في وصل الجيل الشّاب المتعلّم بهويّتة الثّقافيّة الموسيقيّة المشرقيّة من خلال اعتماده منهجًا موسيقيًّا أكاديميًا مبنيًّا على كلّ من التّقليد الموسيقيّ الشّعبيّ اللّبنانيّ من جهة والتّقليد الموسيقيّ المشرقيّ العربيّ (لا سيّما الفنيّ منه) من جهة ثانية، وأنّ هذا الدّور تكامل مع فرع المعهد العالي للموسيقى في مجدليّازغرتا حين تمّ استحداثه السّنة الماضية كصرح جامعيّ شماليّ وحيد يعنى بالحيّز الموسيقيّ، داعيًا كلّ الشّباب والشّابات إلى الاستفادة من هذه الفرصة والانخراط في صفوف المعهد العالي للموسيقى لتحضير إجازة جامعيّة في الموسيقى وعلم الموسيقى، اختصاص علوم التربية الموسيقيّة.

ثمّ كانت كلمة لرئيس الجامعة الأنطونيّة الأب الدكتور جرمانوس جرمانوس الّذي رحبّ بالوزير شاكرًا رعايته وحضوره. وأشار الأب جرمانوس إلى أنّ الجامعة الأنطونيّة، في إقامتها لذكرى سامي الشوّا تسعى إلى تكريم روّاد النهضة العربيّة والإضاءة بخاصّة على دور المسيحيّين منهم، إلى جانب إخوانهم المسلمين، في توطيد فكرة عروبة ثقافيّة مدنيّة غير طائفيّة ومنفتحة، والسّير في منهجيّة التّجديد المتأصّل. وقال عنهم أنّهم "سلَكوا هذا المنهجَ الاجتهاديّ التّأويليّ بامتياز، بُغيةَ إيجادِ أشكالٍ جديدةٍ للتعبيرِ عنِ الأصالةِ في الْمُعاصرة.

وصحيحٌ أنّا نتألّم لما آل إليه هذا المشرقُ البهيُّ في جلجلته الحاليّة. لكنْ عندما سألَ الزّعيمُ المِصرِيُّ مصطفى كاملُ سامي الشّوّا إن كان يرى نفسَهُ من الدُّخَلاء، أجابَهُ في شيءٍ من الحدّة: "لا يا باشا! لسنا من الدُّخَلاء. ما نحن إلاّ فنّانون عرب، نكافحُ بموسيقانا من أجلِ رِفعةِ العرب". ونحن نشاطرُ سامي الشوّا تشبّثَه في دورِ مَسيحيّي المشرق كملحِ هذه الأرض، إلى جانب إخوانهم المسلمين، وذلك شاهدين حتّى الشّهادة على بهاءِ وجهِ القائمِ مِنْ بينِ الأموات". كما أشار الأب جرمانوس إلى رسالة الجامعة الأنطونيّة في الربط بين البحث العلميّ والتّعليم وخدمة المجتمع، وذكّر بالدّور الحيويّ الّذي يتولاّه معهدها العالي للموسيقى في شمال لبنان، على صعيد تأهيل مربّين موسيقيّين ليقوموا بتعليم الموسيقى في مدارس المنطقة.

أمّا الوزير المحاميّ الأستاذ ريمون عريجي، فقال: "يحلو لي هذه العشيّة الرائعة أن أحييكم وأرحب بكم في رحاب أرض الطفولة والانتماء الأحب. والمفارقة انه في حين تتعرّض منطقة الشّرق الأوسط لموجة تجهيل تكفيري، مدمّر للكيانات والحضارات وللقيم والإنسان والفنون وتحرّم الموسيقى، نجتمع اليوم ونتطلّع بشغف الى الاستمتاع بأمسية موسيقيّة رهيفة وعالية المستوى. هذا هو معنى لبنان في جوهر وجوده ودوره الرّيادي في هذا الشّرق. تحييون هذا الاحتفال في ذكرى مرور نصف قرن على غياب الموسيقيّ الحلبيّ الّذي أدخلت أسرته آلة الكمان الى التّخت الموسيقيّ المشرقيّ العربيّ وارتقى بالعزف على "الكمان المعرّب" إلى مستويات عليا، عبر مواكبته أهمّ مطربي عصر النّهضة العربيّة. فعاليّة هذه السّهرة الفنّيّة تندرج في سياق الحضور الأكاديميّ المميّز للجامعة الأنطونيّة في منطقة الشّمال وتخصيصًا في مجدليّازغرتا".

أضاف: "ونحن نستمتع هذا المساء باحتفاليّتكم، ينبسط من الذّاكرة تاريخ عريق من دور الكنيسة المارونيّة نشرًا للعلوم في أرجاء لبنان". كما ذكّر بأنّ هذا الوعي المبكر لأهميّة العلم، يشكّل اليوم محور حراك الجامعات، "وفي صدارتها الجامعة الأنطونية، إيمانًا بأهميّة تطوير المجتمع وارتقائه وانسجاما مع رسالة لبنان الحضاريّة الّذي اضطلع بها نهضويونا الكبار في الدّاخل والمنطقة العربيّة وما وراء الأطلسي". وتابع: "بكثير من التّقدير والاعتزاز نواكب مراحل تطور الجامعة الأنطونيّة من مركزها الأمّ في بعبدا إلى مناطق لبنان وتحديدا في مجدلياالشّمال. هذا الانفلاش الأكاديميّ الرّائع لجامعتكم يرفد مبدأ لامركزية التّعليم الجامعيّ، يوصل الاختصاصات المتطوّرة الى الأطراف، يوفّر عناء الانتقال إلى العاصمة ويجذّر بقاء شباب المحافظات في أرضهم، ما يسهم في تنشيط التّنمية المستدامة للأطراف ويفعّل حركة الاقتصاد ويخفّف النّزوح الدّاخلي ويحدّ نزيف الهجرة. ومن ميّزات جامعة الأنطونية، انتهاجها سياسة تجمع بين التّعليم الأكاديميّ الصّرف، وفتح آفاق المعرفة والثّقافة. فلا ينحصر الهدف بمنح شهادات، بل يتعدّاه إلى تنمية المعرفة والحياة في روح الطّلاّب، عبر استحداث أقسام في كنف الجامعة تُسهم مباشرة في إغناء المسار الثّقافي في لبنان وحفظ الذّاكرة الثّقافيّة الوطنيّة والتّراث الوطنيّ، والدّليل الأكبر المعهد العالي للموسيقى الّذي سيخرّج أجيالاً من الموسيقييّن والتّربويّين في كلّ لبنان وفي مناطق الشّمال خاصّة، بهمّة الدّكتور القدير المبدع نداء أبو مراد والأساتذة المتعاونين ورعاية إدارة الجامعة".

وختم: "إنّني أثمّن الدّور التّربويّ الأكاديمي الّذي تضطلع به الجامعة الأنطونيّة في لبنان بعامّة، وأنوّه بنشاط المعهد العالي للموسيقى فرع مجدليّا، وأوجه تحية من القلب والعقل الى رئاسة الجامعة الانطونية والعمداء والجسم التعليمي، وإلى مزيد من الارتقاء والتّقدم، إيمانا بلبنان المنارة".

بعدها قدّمت مجموعة شبابيّة من تلامذة "بيت الموسيقى" على مختلف آلات التّخت الموسيقيّ المشرقيّ (العود، البزق، القانون، السّنطور، النّاي، الكمنجة، الرّقّ، الدّربكّة) فقرة عزفيّة ارتجاليّة من مقام الرّاست. ومن ثمّ قدّم الدّكتور نداء أبو مراد على كمانه والدّكتور هيّاف ياسين على آلة السّنطور وصلة عزفيّة من مقام السّيكاه، تلتها وصلة عزفيّة من مقام الحجاز، تضمّنت فقرات مُرتجلة من التّقسيم في مختلف صيغه المُرسلة والموقّعة على نسق مدرسة سامي الشوّا، وموشّحات معزوفة وفقرات ارتجاليّة من نوع التّحميلة والرّقص. ورافق الحضور الكثيف الّذي غصّت به القاعة الكبيرة في الجامعة هذه الأمسية بكثير من الاصغاء والانتباه والحفاوة.