بعد صراع مع المرض ، رحل فجر اليوم الممثل الفلسطيني القدير محمود سعيد ، يصلى على جثمانه في جامع الخاشقجي في الطريق الجديدة في بيروت، عصر اليوم ويوارى في الثرى في مقبرة "شهداء فلسطين" في شاتيلا ، وتُقبل التعازي غداً الأربعاء في الجامع نفسه ، وقد نعت الراحل نقابة الممثلين في لبنان .

يذكر أن سعيد كان حل ضيفاً على صفحات "الفن" (النشرة الفنية) ، في لقاء مميز ، العام الماضي في مثل هذه الأيام عندما زرناه في ستوديوهات الدبلجة خلال عمله ، لقراءة المقابلةإضغط هنا.

قدم الراحل ، بين السينما والإذاعة والمسرح والتلفزيون مجموعة كبيرة من الأعمال الرائعة منها مسلسل "فارس ونجود" حيث شاركته البطولة الفنانة سميرة توفيق، ومسلسل "سر الغريب" مع الممثل رشيد علامة، وفيلم "غزلان"، مسرحية "المهرج" لمحمد الماغوط ، كما تميز برخامة صوته الذي ألفناه في الأعمال المدبلجة والإعلانات .

ولد محمود سعيد في مدينة يافا في فلسطين بالعام 1941، بعمر السبع سنوات إنتقل للعيش مع والدته في صيدا في جنوب لبنان، بينما كان أشقاؤه يحاربون مع "جيش الإنقاذ" دفاعاً عن فلسطين ، وبسبب وفاة والده ، سجّلته أمه في "دار الأيتام الإسلامية" حيث تابع دروسه حتى المرحلة الثانوية، والتحق بمدارس "الأونروا" ، ليدرس فيها حتى السنة الثانوية الثانية، وبعدها عمل محمود سعيد على نفسه في الدراسة واللغة .

وكان يتردد على دار الأيتام رئيس قسم المذيعين في "الإذاعة اللبنانية" شفيق جدايل لينظم عملاً مسرحياً في نهاية كل عام دراسي ، وإكتشف جدايل موهبة الطفل محمود في التمثيل والأداء، وصار ينسب إليه أدوار البطولة في عدد من المسرحيات .

في العام 1959، لم يتردد الشاب المولع بالفن في التقدم إلى مباراة أجرتها "الإذاعة اللبنانية" لممثلين وإذاعيين ، كانت اللجنة تتألف من إيلي ضاهر ووجيه ناصر ونزار ميقاتي ومحمد شامل وغيرهم، واختير محمود سعيد ليكون ممثلاً ومؤدياً في الإذاعة.

ويقول سعيد :"ما إن سلكت درب الفن حتى أطلقت على نفسي اسم محمود سعيد، وساعدني أنّ القيّمين على برامج الإذاعة هم أهمّ الذين خلقوا الفن الإذاعي في العالم العربي، مثل عبد المجيد أبو لبن، وصبحي أبو لغد، وغانم الدجاني، وكامل قسطندي، وصبري الشريف "تعلمت اللغة ومخارج الحروف من هؤلاء، مستنداً إلى رصيد كبير من سماع تلاوة القرآن في بيتنا بصوت شقيقي ومن قراءات لما أزل أواظب عليها حتى الآن".

في تلفزيون لبنان، كانت إطلالته الأولى عام 1961 بجملة «بدوية» وحيدة في برنامج «من وحي البادية» أسندها إليه رشيد علامة يقول فيها: «إنْ ما تْرِيدون النُّوْم غيركُم يْريد يْنام». وبين إطلالات في مسلسلات «أبو ملحم» إلى «حكمت المحكمة» و«مسرح الخميس» و«بيروت في الليل» وتقديم شخصيات مثل الاسكندر المقدوني وعمر الخيّام؛ راح رشيد علامة يختاره في أكثر من عمل لـ«تلفزيون لبنان والمشرق» مثل «سرّ الغريب» (1967) من إخراج أنطوان ريمي وإعداد السيناريست جلبهار ممتاز، وهو أول مسلسل باللغة العربية الفصحى. في هذه الفترة، كانت له مشاركات سينمائية في عدد من الأفلام مثل «عنتر يغزو الصحراء» (1960) و«غارو» (1965) و«صقر العرب» (1968) و«أسير المحراب» (1969). بعد فترة، سيصبح تلفزيون لبنان محوراً محلياً وعربياً، وسيعرض مديروه على محمود سعيد عقد «احتكار» لصالح المحطة، مقابل ثلاثة مسلسلات في العام الواحد «ويترك لي أمر تحديد الكاتب والممثلين ونوعية العمل وأن أشرف على الإنتاج التنفيذي... هكذا كرّت سبحة الأعمال التي أطلقتني أكثر فأكثر محلياً وعربياً».

في 1970 أدى سعيد دور البطولة في مسلسل «التائه» المقتبس عن رواية إميلي برونتي «مرتفعات ويذرنغ». «حقق لي هذا المسلسل المقدم بالعربية الفصحى نقلة كبيرة، خصوصاً بعد عرضه في تلفزيون المغرب وشمال أفريقيا، حيث تلقفه السكان لأنهم يعرفون كثيراً عن الرواية الأصلية. عندما زرت تلك المنطقة وجدت الناس ينادونني باسمي في المسلسل، «غريب»... لازمني هذا الاسم فترة طويلة، حتى هنا في لبنان». بعد «التائه»، قدّم في برنامجه «من تراثنا» (1970) 18 شخصية تاريخية منها ابن سينا، والرازي، وابن خلدون، والفارابي. كما قدّمه أنطوان ريمي في مسلسل «السراب» مع زوجته هند أبي اللمع في إطلالتها الأولى وجمعهما أيضاً في مسلسل «غروب»، إلى أن جاء المسلسل البدوي الأول في العالم العربي «فارس ونجود» (1974) الذي تقاسم فيه دور البطولة مع سميرة توفيق (خراج إيلي سعاده عن نصّ لنزار مؤيد العظم).

حقق «فارس» المسلسل، الشاب البدوي الأسمر، شهرة واسعة ظلت أصداؤها تتردد لسنوات طويلة وأسّست لمجموعة أعمال تلفزيونية وسينمائية على النمط البدوي تلقفتها المحطات العربية كافة، وقد شاركته سميرة توفيق بطولة معظمها. في عام 1976، قرّر المخرج السوري مصطفى العقاد تصوير فيلم «الرسالة» عن سيرة النبي محمد، وراح يختار شخصيات الفيلم من العالم العربي، فهمس له زميله على مقاعد الدراسة ومدير التلفزيون الكويتي محمد ناصر السنعوسي باسم محمود سعيد، فدعاه العقاد إلى لقاء في مكتبه في بيروت. لم يطلب العقاد من سعيد تقديم عرض تمثيلي، بل استمع إليه وهو يقرأ من سير الشخصيات التاريخية. «بعدها، اتصل بي وقال «اخترناك لتؤدي دور خالد بن الوليد في الفيلم». كانت فرحتي عارمةً حينها، وقد عاملني الرجل بكل تقدير واحترام... لن أنساه ما حييت». كذلك، شارك في مجموعة من الأعمال عن فلسطين منها المسلسل التاريخي الضخم «وتعود القدس»، وفيلم «فداك يا فلسطين». وعندما اشتعلت الحرب اللبنانية، غادر إلى أثينا حيث أقام ثلاث سنوات، ثم إلى الأردن حيث أقام نحو خمس سنوات قدم خلالها عدداً كبيراً من الأعمال التلفزيونية.

أما في المسرح فقد شارك في أعمال مثل «المهرّج» لمحمد الماغوط، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح وإخراج يعقوب الشدراوي، و«موقعة عنجر» من إخراج نزار ميقاتي، و«موال الأرض» مع عايدة عبد العزيز. يقيم محمود سعيد اليوم في قرية البستان (بالقرب من قبرشمون)، ويمضي وقته بالتجول بالسيارة بين القرى القريبة «حتى بت أحفظ كل شجرة فيها، وكل سلحفاة وضفدعة ودجاجة»، ثم يحطّ رحاله في «مقهى أبو علي» قرب عاليه. «أحتسي القهوة ثم أعود إلى البيت لأنصرف إلى المطالعة... أنا نهم في القراءة». لا يؤدي اليوم أي عمل فني. يواظب على قراءة مجموعة من النصوص، «رفضت بعضها لأنه فيه الكثير من الإهانة لتاريخي الفني».

آخر دور عُرض عليه في مسلسل خليجي، هو عبارة عن «سائق تاكسي عمومي، لبناني أعمل في إحدى دول الخليج، وأقل شخصاً من المطار إلى بيته، ثم أزوره مع زوجتي «السافرة» وابنتي التي ترتدي تنورة قصيرة! سألت المخرج: من كل تاريخي العظيم، لم ترَ لي نهاية إلا في عمل مثل هذا؟ هناك الكثير مثله للأسف!». يغضبه أنّ عقلاً واحداً يدير كل التلفزيونات العربية، لكن مع ذلك يقول: «لن أقطع الأمل». لا يرضيه ما يجري اليوم في العالم العربي تحت مسمّى «الربيع». يرى أنّ كل ما يجري «من فبركة أميركا وإسرائيل». يقول: «عدونا لا يريد لنا الحياة الحرة. يقتل كل شيء جميل فينا، وفي مقدمة ذلك الثقافة، ونحنا ننساق إلى ما يخططه لنا عدونا من دون تردد». ويضيف: «أنا حزين على هذه الأمة. نقترب من مرور 100 عام على النكبة ولم نحقق شيئاً. صرنا نحو 400 مليون نسمة، وليس لدينا محطة أو جريدة نمون عليها في أميركا أو أوروبا لنوصل صوتنا إلى مجتمعاتهم ونقول رأينا ونشرح ظلمنا!».