بتكتم شديد وبعيدا عن الأضواء وعدسات الشاشات، وبغياب تام للصحافيين، تم وفي المساء وليس النهار، دفن نجم الكوميديا والدراما في سورية، العملاق عصام عبه جي الذي فارق الحياة يوم أمس الاثنين إثر نوبة قلبية حادة أنهت مسيرته في الفن والتي زادت على 55 عاما، وأنهت حياته التي توقفت عند 75 عاما.

وخرج المشيعون بالجثمان من منزل الفقيد في حي المهاجرين، ليصلوا به إلى مقبرة زين العابدين بدمشق ليوارى الثرى تحت جنح الظلام، من دون الإدلاء بأية معلومة من قبل الأهل أو الأصدقاء حول ملابسات الدفن في هذا التوقيت الذي يندر مثيله من قبل.

واللافت أن نقابة الفنانين في دمشق وعلى لسان النقيب الفنان زهير رمضان كانت وحتى ما قبل دقائق من انتشار خبر دفنه، تؤكد أن الدفن سيجرى اليوم في دمشق. ورجح رمضان أن يوارى جثمان عبه جي الثرى في مقبرة باب الصغير بدمشق القديمة، على أن يكون التنسيق بين العائلة وبين فرع دمشق لنقابة الفنانين، وليس مع النقابة المركزية.

كذلك كانت اتصالاتنا مع الفنانين لأخذ تصريحات منهم عن زميلهم الراحل تذهب باتجاه أن لا أحد كان يعلم أن دفنه سيجرى أمس، لنصل إلى نتيجة مفترضة مفادها أن العائلة فضلت التكتم على دفنه وعدم إقامة مراسم دفن معتادة، خصوصاً لرجل مشهور وله شعبية واسعة ليس في سورية وحسب بل في العالم العربي أجمع.

 


في السيرة الذاتية للراحل الكبير أكثر من 55 سنة من الإبداع والعطاء، فهو المولود قبل 75 عاما في دمشق، والمنتسب منذ سن مبكرة إلى كل مسرح تشكل في دمشق، بل كان من الذين يدفعون من جيبهم لدعم أي مسرح مهما كان صغيرا.


في المدرسة شاغب عصام وقاتل وناضل، حتى يسمح له بإبراز مواهبه في التمثيل الحي والمباشر أمام الطلاب.. وفي المنزل كان يناضل ويتحمل قسوة الأهل الذين لم يكونوا يعترفون بشيء اسمه فن في تلك الحقبة.

في العام 1960 انتهز فرصة تشريع المسرح في سورية، وبصدور المرسوم الذي سمح بقيام مسرح حكومي، كان عصام من أوائل المندفعين إلى هذا المشروع، فكان اسمه وما زال من رواد الحركة المسرحية لكونه يعتبر حجر أساس في تأسيس المسرح القومي، الأهم في سورية حتى اليوم.

وفي العام نفسه قام التلفزيون في سورية ولأول مرة، وكان المخرجون الذين عادوا من الدراسة في مصر يلهثون وراء قامة شبابية يتكلم صاحبها بلهجة شامية عتيقة ومميزة، فأسندت له أدوار الشر في المسلسلات التي كانت جديدة على المجتمع السوري.


ويسجل له في مقابلة صحافية تعود للعام 1964 أنه اعتبر كره الجمهور له عن أدوار شر يؤديها في تلك المرحلة بمثابة زاد له للسنوات لمقبلة عندما يعي الجمهور أن كل ما يراه على الشاشة هو تمثيل وحسب.

ومن المسرح والشاشة الصغيرة إلى السينما وأفلام مع دريد ونهاد ورفيق سبيعي وناجي جبر وياسين بقوش وعبد اللطيف فتحي، وظهور دائم بصورة الرجل الباحث عن إسعاد الناس، بالخير أو بالشر.

حتى كان العام 1982 وفيه توجه إلى العالمية من خلال مهرجان مسرح الأم في بلغاريا والتي حصد فيها جوائز مهمة جعلته يشعر بقيمة ما قام به في السنوات العشرين السابقة.


ولأن صوته كما ذكرنا شامي مميز بعتقه، كان قرار إذاعة دمشق بأن تسند له مسلسلا يوميا ولسنوات طويلة مع النجمة وفاء موصللي فيه كل ما يتعلق بهموم المواطنين، حتى نسيت الجهات الحكومية أن للبرنامج مخرج ومنتج هو القطاع العام، وراحت تستدعي عصام الممثل للتحقيق معه حول حلقات كان يتناول فيها هذه الجهة أو تلك بالانتقادات بأسلوب اجتماعي لا تسييس فيه.


كان شديد الخصومة مع الرقابة، وكثيرا ما اشتكى من اتصالات كانت تأتيه بسبب هذه الحلقة أو تلك، أو بسب بهذا التصريح أو ذاك. كان محبا للحقيقة، ويعمل على تغيير الواقع عبر الصوت الكلاسيكي له.
ومنذ مطلع التسعينيات لم يبق مسلسل بيئي شامي إلا وأخذ من عصام حصة، وأعطى لعصام حصة.. حتى وصل به المطاف إلى مسلسل باب الحارة وشخصية أبو ابراهيم المؤثرة في فصولها خصوصاً في الجزء الأول أيام الصراع على الليرات الذهبية التي سرقها الإدعشري.

إذا قلبنا في تاريخ عبه جي سنجد حوالى 7000 ساعة تلفزيونية، ومئات الساعات السينمائية، وآلاف مؤلفة من ساعات المسرح... وأكثر من 3000 ساعة إذاعية.. فماذا يقول زملاء الدرب فيه؟


 

النجم أسعد فضة نعاه كأخ وليس كزميل أو صديق، ووصفه بالعبقري الذي سخّر صوته لخدمة الشعب، فأحب الشعب إطلالته مع الصوت، فغدا نجما للتلفزيون والإذاعة معا.


وأضاف فضة :"نحزن لأي فقيد، لكننا عندما نفقد أشخاصا لا يمكن تعويضهم يكون الحزن مضاعفا لأنه يكون على مستوى الوطن والمستقبل".
أما النجم رفيق سبيعي فقال:" ما الذي أقوله عن أخ وصديق ورفيق درب؟؟ إذا أردت الخوض في كلام عنه ستغدرني اللغة، وسأكون ملزما بالعودة أكثر من نصف قرن إلى الوراء عندما كنا نجتمع في المسارح البدائية، وفي المقاهي العامة لنصنع شيئا للفكر والثقافة".


وتابع سبيعي :"لي معه أكثر من ألف ساعة مشتركة في الدراما، وأكثر من ذلك بكثير في المسرح، وعشرات الأفلام السينمائية... وهنا أصبح متحدثا عن ظل لي، وعن شخص كنت ظلا له.. رحمة الله عليه وأسكنه فسيح جناته".

 


أما النجم سامر المصري فاستذكر الكثير عن الراحل الكبير، وتركزت ذاكرته على أهم مشروع خاضه معه وكان في مسلسل باب الحارة.
وقال أبو شهاب:" لنا معا باب الحارة وغير باب الحارة، لكن في باب الحارة كنا قريبين روحيا بحكم أن التصوير في مكان واحد طيلة فترة العمل".
ووصفه بالرجل المختلف الذي لا يمكن الاستعاضة عنه بمثيل.


أما النجم حسام تحسين بك فوصف الراحل بأنه صورة من صور دمشق الجميلة وصوت من أصواتها الشجية، واعتبره خسارة كبرى للفن.
وقال تحسين بك:" مع النزول عند قضاء الله وقدره، أرى أن أشخاصا كهؤلاء لا يموتون، فهم أحيوا بلادهم فكرا وثقافة وعطاء وحبا.. وليس أمام التاريخ إلا أن يسجلهم بأحرف من ذهب".


وختم تحسين بك :"أبشع موقف أن تخسر أخاً، وتعرف أنك لن ترى هذا الأخ مجددا".


بقي أن نشير إلى أن عصام عبه جي كان يقرأ في الفترة الحالية أربعة نصوص لمسلسلات من الدراما السورية للموسم المقبل، منها مسلسل بيئي شامي "طوق البنات" ومسلسلان اجتماعيان، فضلا عن مسلسل كوميدي.

واشتهر الراحل في السنوات الأخيرة بأعمال خالدة أبرزها " لعنة الطين" في العام 2010 والتي أدى فيها دور رجل حكيم يوجّه عائلة مشتتة إلى طريق الصواب.