في موكب مهيب ووسط حزين لفّ جموع الحاضرين، شيعت الدراما السورية بعد ظهر اليوم الفنان الكبير أدهم الملا إلى مثواه الأخير في مقبرة بئر السبيل الثانية / منطقة الصالحية.

وخرج التشييع من بيت المرحوم الفنان أدهم الملا ، وجرت صلاة الجنازة على الراحل الكبير في جامع الملا قاسم في حي ركن الدين نفسه حيث عاش الفنان لعقود طويلة.

وشارك في التشييع نخبة نجوم الدراما والسينما في سورية، فضلا عن مشاركة رسمية من عدة جهات في الدولة بالنظر إلى الأهمية التي تتمتع بها عائلة الملا، والتي يعتبر الفقيد عميدها ومؤسسها، في أرجاء البلد.

وساد الوجوم على وجوه المشيعين، وكان أولاده المخرجون الشهيرون بسام الملا ومؤمن الملا وولده الفنان بشار الملا يتلقون التعازي حتى قبل أن يوارى جثمان أبيهم الثرى، في وقت حضرت فيه وسائل إعلام محلية وعربية وأجنبية لتغطية التشييع.

وكان أدهم الملا فارق الحياة صبيحة أمس الأربعاء عن عمر ناهز الـ 82 عاما، بعد صراع طويل مع مرض عضال.

واضطر ولده المخرج مؤمن الملا إلى قطع زيارته إلى دبي لترتيب أعمال فنية هناك، ليعود إلى دمشق على وجه السرعة للمشاركة في تشييع ابيه وتلقي العزاء به.

بينما كان المخرج الأشهر بسام الملا (مخرج باب الحارة) في دمشق يواصل الإشراف على تصوير الجزء السابع من المسلسل البيئي الشامي الأشهر عربيا.

ولد أدهم الملا في لبنان في العام 1932 وانتقل وهو صغير مع والديه إلى مدينة اللاذقية على الساحل السوري، ليعيش فيها لسنوات،

قبل أن ينتقل إلى دمشق ويقيم في حي ركن الدين الدمشقي.

دخل عالم الفن في سن مبكرة، حيث لم يكن قد بلغ العشرين من عمره حتى انبرى عبر الإذاعة السورية , يشارك في تمثيليات ومسرحيات لا يصدر منها إلا الصوت في ظل غياب التلفزيون الذي لم يكن قد عرف في سورية وقتذاك.

وبمجرد مجيء التلفزيون في العام 1960 كان أدهم والذي بلغ حينذاك الثامنة والعشرين من العمر من أوائل الملتحقين به، ليشارك في مختلف المسلسلات السورية التي تعتبر اليوم الرائدة في مجال الفن السوري.

تعاون أدهم مع مختلف مخرجي تلك المرحلة، وكان سندا قويا لدريد لحام ونهاد قلعي ورفيق سبيعي وناجي جبر ومحمود جبر وياسين بقوش في المسرحيات التي سادت في تلك الفترة أيام المسرح الجوال ومسرح الشوك.

وانتقل معهم بعد ذلك إلى الأعمال التلفزيونية وبخاصة في فترة السبعينات التي شهدت ظهور الكركترات في الدراما السورية، فكان صاحب الكركتر الخاص بالرجل الفقير الموجّه للناس للقيام بعمل الخير عبر الدعاءات الجوّالة.

في تلك الفترة كان أولاده الذين رزق بهم يشاهدونه عبر الشاشة، فالتسموا منه إيعازا بالانطلاق متى شاؤوا إلى عالم الفن والدراما بمختلف أنواعها، فتفجّر ذلك البيت عن أكثر من مبدع يعود الفضل لأدهم الكبير بصنعهم.

ففي مطلع التسعينات، وبينما المسلسلات السورية تأتي رتيبة ومكررة الأفكار لعشر سنوات متتالية، يفاجأ نجل أدهم (بسام) الجمهور السوري، وتاليا العربي، بمسلسل خارج عن الزمن. كان ذلك في مسلسل أيام شامية الذي جمع فيه عباس النوري وبسام كوسا وخالد تاجا وعدنان بركات ورفيق سبيعي ووفاء موصللي وسامية الجزائري وحسام تحسين بك وآخرون لا يتسع المجال لذكرهم في حارة دمشقية عتيقة يخوضون فيها غمار العادات والتقاليد القديمة التي اعتبرها الملا هي الأصل ويجب استعادتها في زمن تغيّر فيه ما تغير. كان أدهم الكبير مشاركا في المسلسل ولو في جانب محدود التأثير.

جاء في تصريح لأدهم الملا بعد ذلك بسنتين لصحيفة محلية بأن ولده بسام قادر على إحياء التراث السوري والدمشقي من خلال أعمال تحاكي عادات وقيم ليس مستحيلا عودتها.

تلقّف الولد إطراء الأب، واصطبر لعشر سنوات فقط حتى فجّر كل طاقاته، فأبدع في مسلسل ليالي الصالحية ما يشبه أيام شامية، لكن بصورة مختلفة وأبعاد مغايرة وبأدوات أكثر حداثة. وكان الأب شريكا للابن في تحقيق ذلك.

لتنطلق العجلة الملّاوية في مسلسلات البيئة الشامية، بعد نجاح سابق لمسلسل الخوالي الذي تجسدت فيه البيئة الشامية بأزهى صورها من خلال بطولة الشاب الشعبي نصار ابن عريبي الأمر الذي يؤمن به أدهم فأورثه لولده.

وتصل عقار بالساعة إلى زمن مختلف وأدوات وجهات إنتاجية مختلفة.. ففي العام 2006 تتفتق قريحة آل الملا عن عمل عربي سوري تمت مشاهدته في وسط الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، بل وتحدثت عنه نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي في أكثر من محطة. إنه مسلسل باب الحارة الذي لم يبق طفل عربي أو رجل أو امرأة أو مسنّ، إلا وحفظ عن ظهر قلب أبطاله وتفاصيله لخمسة أجزاء متواصلة كان الأب حاضرا فيها كلها.

نعم نجح أدهم الملا في ضخ أفكار بيئية وعادات متأصلة بأولاده، فنتج عنها بيئة شامية في دراما عربية لم تكن تعير هكذا أعمال تلك القيمة من قبل.

ولكي لا يبقى بسام وحيدا في العزف الشامي المتأتي عن أبيه، قام ولده الآخر مؤمن بفتح سوري شامي في سماء الخليج العربي، حيث حمل بيئة الشام معه ووضعها في طائرة وحطّ رحاله بها في قلب أبو ظبي ليصوّر مسلسلا بيئيا شاميا هناك بعنوان " حمّام شامي".

كل ذلك والملا الأكبر مشارك.. وينتظر بفارغ الصبر عودة باب الحارة من جديد بعد توقفه لمدة أربع سنوات كاملة، لتكون السنة الحالية سنة العودة وفي شهر رمضان حصرا في جزء سادس.

وماذا؟؟؟.

شاهد الأب المؤسس حلقتين فقط من هذا الجزء الذي أبدعه ولده بسام كمشرف عام عليه، ثم أغمض عينيه الإغماضة الأخيرة وسلّم روحه إلى بارئها راحلا عن حياة أعطاها الكثير، فنّا وإبداعا وأولادا مبدعين.

نعم مات أدهم الملا.. لكن ولطالما باب الحارة وحمام شامي وليالي الصالحية والخوالي أعمال ستبقى تعرض على الشاشات، وموقعة بأسماء أولاده، فإن اسمه لن يغيب... ومتى غاب الإبداع إذا مات صاحبه؟؟؟.

الرحمة كل الرحمة للفقيد الكبير... ولأهله الصبر والسلوان.