إختارت مهرجانات بعلبك الدولية لهذا العام الإحتفال بعيدها الستين بالعودة إلى التراث، إلى الأصالة فكان اختيارها لفرقة كركلا لتقدم عرض الافتتاح موفقاً، هذه الفرقة التي أسسها عبد الحليم كركلا في العام 1968 مع نحو 12 راقصاً، وقدم باكورة أعماله فيها في العام 1972.


في بداية السهرة، توافد الحضور إلى أدراج معبد باخوس في القلعة الأثرية من مختلف المناطق اللبنانية إلى مدينة الشمس وتنوعوا بين لبنانيين وعرب وأجانب من مختلف الأعمار والأذواق والانتماءات، فغصت المقاعد التي جهزت للحفل بما يقارب الثلاثة آلاف شخص وساد السكون لدقائق قبل أن تفتتح الأمسية بالنشيد الوطني اللبناني.

كركلا أبحرت بنا خارج الزمن والجغرافيا بل خارج الواقع، اصطحبتنا في رحلة خيالية عبر طريق الحرير الذي كانت تسلكه القوافل التجارية، من الشاطئ الفينيقي، بدءاً بمسقط في سلطنة عمان لتنتقل إلى الهند مروراً بمدينتي كزايان وبكين في الصين وصولاً إلى شيراز واصفهان في بلاد فارس لتنتقل بعدها إلى مدينة البندقية ثم تعبر القوافل الصحراء لتعود في نهاية المطاف بحكايات ومغامرات إلى مدينة الشمس.
في البداية صدح صوت الشاعر الرحل سعيد عقل وهو يلقي قصيدة عن بعلبك كتبها عباس كركلا والد الفنان عبد الحليم كركلا الذي قام بصياغة العرض وتصميم أزيائه المبهرة، واستهل العرض بتجسيد لجوبيتير الذي يروي قصة مغامرة طريق الحرير.
باقة من الأصوات المخضرمة الأصيلة جسدت شخصيات العرض وأنشدت أغنياته فذكرتنا بأيام العز أمثال هدى، إيلي شويري، جوزيف عازار وسيمون عبيد، مع الممثلين رفعت طربيه، غبريال يمين، علي الزين ونبيل كرم.

ثم تبدأ الرحلة من مدينة بعلبك حيث ملأ السياح المكان، وينتقل العرض بالزمن إلى ساحة، حيث الأهالي يجتمعون لإحياء عرس بعلبكي، ويزف الوالي (جوزف عازار) للحاضرين مشروع مغامرة تنطلق من بعلبك إلى الصين، وإلى جانبه أم تيمور (هدى حداد) ومستشار الولاية (إيلي شويري) في أجواء حوارية وغنائية تبدو كأنها تحية لمسرح الأخوين عاصي ومنصور الرحباني.

وأظهرت شاشة عملاقة مؤلفة من سبعة ألواح مستطيلة مشهديات سينوغرافية وعكست صوراً أيضاً شكلت دعماً للوحات الراقصة والأغاني والمشهديات التمثيلية وساهمت كديكور إضافي ساند العرض، هذه الخلطة بين كل هذه المكونات أبهرت الجمهور فتزاوجت مع أنغام الموسيقى التصويرية إضافة إلى أغنيات وموسيقى من الهند والصين وبلاد فارس والخليج وبالطبع الموسيقى والأغاني الفلكلورية البعلبكية.

بعد أن تم إقناع أمير البحار ابن ماجد ليكون دليلاً للمغامرين من بلاد الأرز، رست مراكب الصيادين بين أعمدة معبد باخوس وانطلقت الموسيقى والأغنيات الخليجية. والجديد أن فرقة كركلا طعّمت الرقص الخليجي بحركات راقصة معاصرة طوّرت المشهد كما اختارت الأزياء الفلكلورية لتضفي جمالية وتطبع بصمتها في هذا المكان وعلى هذا المسرح المهيب.

وبعد رحلة شاقة للسفينة التي مخرت عباب البحر الهائج تصل بالمغامرين إلى شواطئ الهند والسند فيتم استقبالها بالطقوس الهندية ويتحول مسرح معبد باخوس إلى معبد هندي ترسم فيها 12 راقصة هندية يرافقهن أربعة راقصين ومنشدان وثلاثة عازفين لوحة "أكزوتيكية" ساحرة تنقل إلى الحضور سحر الشرق البعيد وتصدح حنجرة المغنية الهندية بأغنية تجعلنا نبحر في الخيال إلى هذا البلد المليء بالأسرار، ثم ينتقل المغامرون الفرسان إلى المحطة التالية وهي مدينتا كزايان وبكين في الصين حيث تحاط البعثة بالعسكر فيقودون أفرادها إلى السجن للتحقيق معهم، وحين يدرك الإمبراطور سبب قدومهم، ويعلم أنهم من بلاد الحرف فيأمر بالإفراج عنهم، ويشارك في هذه اللوحة نحو 30 راقصة وراقصاً صينياً بأزياء زاهية.
في هذه اللوحة نلحظ حضور الممثل الجزائري هشام مغريش الذي يؤدي دور المترجم، ويتعاون للمرة الثانية مع فرقة كركلا، ليضفي مزيداً من الخيال والروعة على مناخ العرض، إذ إن ظهور الأقزام عادة في الأفلام مرتبط بالخيال.

وفي طريق العودة تحط رحال البعثة في شيراز واصفهان في بلاد فارس، حيث تلمع الفرقة الإيرانية منشدة قصائد لعمر الخيام وجلال الدين الرومي والشيرازي، وصولاً إلى البندقية التي تضج ساحتها بالفنانين في زمن الكرنفال، ثم يعود جوبيتير ليزف خبر عودة المغامرين الذين فازوا بذكريات وقصص ومغانم ستتناقلها الأجيال لتكتب أسطورة بلاد الأرز على صفحات التاريخ.


ويحتفل بعودة البعثة بالزغاريد والرقص ويطل الفنان هادي خليل ليغني أغنيات من وحي التراث اللبناني البعلبكي، التي تنوعت بين الميجانا وأبو الزلف ويا عين موليتين، وميّل يا غزيّل وحتى أغنيات بدوية، فتفاعل الجمهور معه ومع الراقصين بطريقة لافتة واشتعلت المدرجات بالتصفيق تعبيراً عن سعادته بتراثه الشرقي المترسخ في وجدانه وذاكرته وثقافته.

في العرض المسرحي "إبحار في الزمن .. ع طريق الحرير" استعان الفنان إيفان عبد الحليم كركلا في عمله براقصين من البلدان الواقعة على هذا الخط، حملوا معهم موسيقاهم وملابسهم وخطواتهم الإيقاعية إلى الخشبة فجسد المشهد التمهيدي للرحلة الحضارية الكبرى التي أسست لعالم عربي مختلف كان فيه أجدادنا يتعاملون مع أكبر دول العالم معاملة الند للند، ونقل لنا نماذج فنون الدول الواقعة على هذا الخط وعند العودة إلى بعلبك.

لوحظت التكلفة العالية التي وضعت في خدمة العرض المسرحي فظهر البذخ في كل تفاصيل العرض وخصوصاً الأزياء التي صممت بشكل أنيق وألوان زاهية لاءمت كل مشهد، أما راقصو الفرقة فأّذهلونا بلياقتهم البدنية وبإتقانهم للعرض والذي فاق حتى أداء الراقصين الأجانب.


الديكور الضخم نفذته شركة "تكنو إيطاليا"، التي بَنَت ديكور فيلم "Jesus of Nazareth، ذات تقنية عالية وديكورات افتراضية أخذت ثلاثة اشهر لدراستها واختيارها واستغرق انجازها 6 أشهر في ايطاليا لتتلاءم مع ضخامة معبد باخوس. بذخ وإتقان في الأزياء و في السينوغرافيا والإضاءة ميزت وتميّز مسرح كركلا دائماً.

العرض الذي استغرق ساعتين من إنتاج مركز "كركلا للأبحاث التراثية"، كتب نصّه وأشعاره وصمّم الأزياء عبد الحليم كركلا، الكوريغرافيا تصميم اليسار كركلا، والتوزيع الموسيقي صنع من لبنان والخارج.
السيناريو والأغاني: طلال حيدر، تصميم الإضاءة ومستشار سينوغرافي: آلان بارت، سينوغرافيا: كارلو شينتولافينيا، الموسيقى: مرسيل خليفة، توفيق الباشا، زكي ناصيف، شربل روحانا، إيلي شويري .