اشتاق إلى الفريكة فأبى إلا أن يعود إليها مكلّلاً بالحبّ والوفاء والمجد، اشتاق إلى خشبة مسرحه فبات بين الخشب ناراً لا يطفئها الزمان ولا المكان.

اشتاق إلى أبنائه فعاد ليحضنهم تحت جناحي إبداعه وأبوّته، والداً ومعلّماً وفنّاناً. إنه أب المسرح الحديث وعموده الفقري، إنه رائد المسرح الرؤيوي، إنه منير أبو دبس الذي بصم بصمته الأخيرة في التاريخ الحديث ورحل تاركاً وراءه خلود إرث فنيّ ومسرحيّ، هو الذي اتّحد بالمسرح حتّى الإنعتاق، ونحت الممثلين حتّى صار المسرح في خدمة الممثل في تناقضاته وضعفه وقوّته.

منير أبو دبس لفظ أنفاسه الأخيرة في فرنسا البلد الذي علّمه وصقله وربّى فيه أولاده، لكنّه كان وهو على فراش المرض يردّد دائماً: خذوني إلى لبنان. هو لبنان الذي ذهب إلى منير أبو دبس في الستينيات داعياً إليه لينهض بالثقافة المسرحية فيه، فكان أن أنشأ أبو دبس مدرسة المسرح الحديث فخرّج منها رعيلاً من الممثلين الذين تتلمذوا على أفكاره ورؤيته للمسرح وللحضور المسرحي، ثمّ أن هياكل بعلبكّ ندهته فلبّى النّداء فأخرج على خشبة مسرحها مسرحيّات عالميّة برؤيا خاصّة وبمجهود إبداعي إستثنائيّ منها: ماكبت وأوديب والملك يموت. لكنّه انفصل عن بعلبكّ انفصال الإبن عن أهله فأسّس مدرسة المسرح الحديث في بيروت حيث التقى بـ أنطوان ملتقى ولطيفة ملتقى وبلغت قمّة تجربته في مسرحيّة الطوفان التي جعلت فرنسا تعشقه، فرنسا التي عاد إليها أثناء الحرب اللبنانية وشارك فيها بعدّة محترفات. لكنّه عاد إلى لبنان عام 1997 ليؤسس مهرجانات الفريكة السنوية حيث قدّم أعمالاً عديدة تبيّن عمق تجربته وسرّ رؤيته للمثل والمسرح والحضور المسرحي، منها: ساعة الذّئب والتمثال والحلم.

منير أبو دبس الذي كان يعتبر أن الممثل أهم من النص المسرحي ساهم في تكوين عمالقة المسرح والتمثيل مثل: أنطوان كرباج، ورفعت طربيه وميراي معلوف ونضال الأشقر ويعقوب الشدراوي وغيرهم.
أما بعد عودته إلى محترف الفريكة فقد خرّج نخبة من الممثلين الذين صقلهم وعلّمهم وعلّم فيهم ومثّلوا في مسرحياته الأخيرة مثل: طارق قنيش، نسرين الأشقر برباري، مارك خريش، أدهم الدمشقي، مايا سبعلي، لوسيان أبو رجيلي وغيرهم.
عاد منير أبو دبس البارحة محمّلاً على الأكتاف من فرنسا ليعانق الثّرى، ثرى بلدته الحبيبة الفريكة، ومكلّلاً بالمجد والغرابة والوفاء من تلامذته وأصدقائه وعائلته الصغيرة والكبيرة. وقد وصل جثمانه إلى مطار بيروت عند الساعة الثالثة من بعد ظهر الخميس 21 تموز حيث كان بانتظاره لوداعه عائلته وأصدقاؤه وطلاّبه ومحبّوه الذين انتظروا مدّة ساعتين ليخرج الجثمان من المطار مدركين أن منير أبو دبس لا يموت.


موقع الفن كان حاضراً في صالون الشرف حيث إنتظرنا منير أبو دبس لساعات، لكن الساعات كانت حزينة ومتعبة لكنها كانت مليئة بالأحاديث عم منير أبو دبس وعن الذكريات وعن أعماله وفكره ورؤيته.

وكان لنا أحاديث مع ابنه وطلاّبه ومحبّيه:
جيل أبو دبس ابن الراحل: سنأخذ الجثمان من المطار إلى الفريكة إلى بيت الحرير حيث كان المسرح لنسهر معه الليل كلّه حتّى يوم الجمعة الساعة الواحدة عندما سيحمل أبناء قريته إلى كنيسة الفريكة مار يوسف لمدة أربع ساعات. منير أبو دبس الوالد كان في عالم وجو خاص به وهذا العالم لا يمكن أن يخترقه إنسان حتى أنا ابنه لم أتمكّن من كشف أسرار عالمه كأنه انطلق إلى فوق قبلنا، فلم يكن هنا على الأرض بل كان فوق وقد فهم أموراً كثيرة لم نفهمها نحن.

جورج حران ممثل نقابة الممثلين: لا أعرف إذا أنا من يجب أن يعزّي أو أنا من يجب أن يعزّوني في رحيل منير أبو دبس، وأنا بإسم نقيب الممثلين جان قسيس وباسم جميع أعضاء النقابة وباسمي أقول إنه خسارة كبيرة لا تعوّض للفن. لا شكّ أنه ترك بصمة في المسرح الحديث وهو والده والفنان لا يموت وذكراه ستبقى موجودة عسى أن نبقى نسير على خطاه.

المخرج لوسيان أبو رجيلي: نحن تعرّفنا إلى منير أبو دبس بعد عودته من باريس، وهو كان أكثر من أستاذ كان مرشداً، كان غيرنا يتعلّم على يد عدّة معلّمين لكننا نحن تعلّمنا على يد واحد من المسرحيين الكبار. في الفريكة كنا نأتي لا لنمثّل فقط بل لنتعايش مع المكان لنتحدّث معه ولنقضي الليالي معه. لقد أثّر فينا ليس فقط كأستاذ بل أبوياً أيضاً. كان دوره مهماً جداً قبل الحرب خلال الستينيات لكن بعد الحرب أيضاً كانت المرحلة أهمّ حيث عمل على المسرح الرؤيوي، لكن لم يتمّ الإضاءة عليه كما يجب لأن مسرحه مسرح تجريبي. منير أبو دبس هو فيلسوف مسرح وخسارته كبيرة جداً والجلوس معه تغني الإنسان وقد مثّلت معه خمس مسرحيات. وسأتذكر منير أبو دبس الأستاذ والإنسان الذي جعلني أعشق المسرح وروحانيته وفلسفته كمكان لتجد نفسك فيه وليس فقط للإستعراض.

مايا سبعلي: ما زلنا حتى الآن تحت الصدمة فلم نستوعب فكرة رحيل منير أبو دبس الذي كان مازال منذ فترة بيننا. فهو في ذهننا أزليّ. وكلما قمنا بعمل كنا نسأله ونستشيره والآن أحضّر عملاً وكنت أنوي استشارته لكنه رحل. منير أبو دبس لا يموت إلا بالجسد، فأفكاره تعيش فينا. لقد علّمنا منير أبو دبس كلّ شيء علّمنا خبرة سنين من الثقافة والتجربة وكان موسوعة من الكتب التي قرأها. وكنا نتحدّث معه عن أمور أخرى غير المسرح. بالنسبة إليه النص هو لا شيء الممثل هو كل شيء لهذا لم يكن يعطينا إرشادات لكن العمل كان يخرج كما هو يريد تلقائياً فكان يحب الصمت والجمود. وبعد أن خرجنا إلى سوق العمل أدركنا متيقنين أنه لولا منير أبو دبس لما كنا ما نحن عليه الآن. أنا مع منير أبو دبس كنت أمثل "بيت بيوت" كل له دوره. منير أبو دبس لن أودّعك لأنك ستبقى معي في كل حين عند كل صعود إلى المسرح.

مارك خريش: هو بالفعل معلّم كبير، حتى إنه يعلّمك كيف تتعامل مع الأشياء حولك، بيتك والحجر ومع طفولتك ومع الشجرة ومع الطعام الذي تتناوله. كل شيء بالنسبة إلى منير ابو دبس هو اختبار حتى نحن الممثلون كنا اختباراً له. من هنا هو معلّم، والفترة التي عايشناه فيها هي أكثر مرحلة تمتّع فيها بالحكمة والرؤيا. ولم نعتقد يوماً أن هذه ستكون النهاية لأنه منذ شهر تقريباً قال لي أكتب مسرحية سنقوم بتمثيلها في الفريكة. منير أبو دبس لم يتقاعد عن المسرح ولم يشعر يوماً بأنه تعب أو أنه يريد أن يستريح. ونحن الرعيل الأخير نعتبر أننا أخذنا عصارة تجربة منير أبو دبس ولم نضيّع الوقت في أن نتعلّم المسرح بل توجّهنا إلى أب المسرح وهذا شيء عظيم. واليوم خسر المسرح والده ولو لم يكن منير أبو دبس لتأخر المسرح في لبنان خمسين عاماً.

أدهم الدمشقي: لقد عرفنا منير أبو دبس كمعلّم لأن الرعيل الأول الذي تعلّم على يديه كان بينهم وبين منير علاقة زمالة بحكم قرب السنّ والمنافسة بينهم. لكن منير أبو دبس لم يشكّل لنا منافساً بل معلّماً تعلّمنا منه وهو ليس أستاذاً فقط بل شخصاً علّم فينا وترك بصمة فينا. وإذا أريد أن أعيد قراءة المرة الأولى التي التقينا فيها منير في الفريكة أتذّكر الغرابة التي كان يعيش فيها حتى منزله كان غريباً وفريداً في القرية ومسرحه كان فريداً وغريباً عن المسرح الواقعي فكما أن بيته كان فريداً في الضيعة ومسرحه أيضاً هكذا كان منير فريداً، وكان يقول لنا الواقع هو المسرح العاطل. لكننا عندما نصعد إلى خشبة المسرح نتخطّى الواقع لأن الممثل بالنسبة إلى منير أبو دبس هو الذي ينسى التمثيل الذي يعيشه كل يوم. لأننا في الحياة الواقعية ممثلون إلا أننا عندما نصعد إلى المسرح الذي هو بيت الأسرار على حدّ تعبير منير أبو دبس وبيت المقدّسات والبحث عن أسرار الوجود لهذا وجودنا على المسرح هو لننسى التمثيل الذي نعيشه كل يوم. منير أبو دبس هو شخص نادراً ما تلتقي بمثله فينقّى لك ذوقك الفنّي والجماليّ. فلو لم أتعلّم على يدي منير أبو دبس لكان أي بهلوان على المسرح أبهرني إلا أنني اليوم فمن الصعب أن أنبهر بأي شيء فقد هذّب لي ذوقي. فعندما ترى الجمال يصبح الجمال معياراً لك لتقرأ من خلاله الأعمال.