لطالما كنت أسمع وأقرأ كصحافيّة وكعاشقة للفنّ عن سحر مسرح "برودواي" وعن روعة الحلم في عروضات "السيزرس بالاس" في أميركا.

لكنني لم أظنّ يوماً أنني سأستغني عن مشقات تأشيرات الدخول، وجلجلة المطارات . حلمي نضج هنا، شاهد برعم الأدهاش يتفتّح ليُزهر جمالاً هنا، في مدينة البداية هنا، من مصنع الحرف ومهد حضارة الفينيق هنا، من جبيل، كنت هناك وهناك كانت أميرة الفينيق "كارول سماحة".


بدا على وجوه الناس جميعاً ، وكأنهم على علم مسبق بأن الحفل ليس مجرد مسرح ، إضاءة ساطعة وفنانة تغنّي، شعرت وكأن الجميع يدرك أن المنتظر هو رحلة خيال بعيدة عن عذابات المواطنة اللبنانيّة وآلامها المضنية. إنهم بإنتظار كارول سماحة، صانعة الحياة بحنجرتها وواهبة الأمل بحضورها. من أول خطوة أصعدتها إلى المسرح، تفلّت منها إبداعها وإحترافها بسرعة دوزنة الأوتار. كانت ساحرة المظهر والمضمون، تغنّي بحقيقية الروح وصراحة الوجدان. لا تقدّم مجرد غناء وإنما "Show" أي عرضاً كامل الأوصاف. رُقيُّ باهر في حركات الجسد وتعابير الوجه، أنيقة الإبتسامة وسندسيّة الطلّة. ليس المايكرفون وحده من يلمس النضوج المكتمل في صوتها، وإنما مسامعنا المتلهّفة أيضاً، فصوتها بمخارج الحروف ونقاوة العُرب يُثبت قوة كامنة في داخل تلك الأميرة الآتية من جبل لبنان ، من متنه من صنينه ، من تاريخهِ المتخم فخراً.

وأنا جالسة مسمّرة البال والخيال، إنتابني خوف مريب، خوف من أن تُفسد مسامعي و أذناي الموسيقيّة من جراء الدلال المفرط في النوعية ، فأصبح متكبّرة، غير راضية عن أيّ عرضٍ آخر سأحضره في المستقبل ، لأن ما بعد كارول ليس كما قبلها. تخوفت من أن أتمتّع بطمع الفن، وأطلب من كل فنان أن يمنحني لذّة العرض الذي منحتني إياهُ كارول سماحة، فهي أعطتنا المتعة القسوة، و من على القمة نخاف أن نهوي.
بدأت كارول "بإحساسٍ كبير" الأغنية، و أكملت حتى النهاية بالإحساس نفسه ، فقولها تُرجم فعلاً ملموساً ومسموعاً ، منظوراً وغير منظورٍ، "إطلّع فيّ هيك" الأغنية القديمة بالسجل الفني والمتجددة دوماً بسجلات الذاكرة، غنتها كارول بإحساسٍ مرهف يُحاكي أحاسيس الناس المتفاعلة معها. فكارول لا تُغني لتبرز عضلاتها الصوتيّة كما تفعل الأخريات، وإنما تُغني لتعيش الفن كلماتٍ وألحاناً ، لتعيش خشبة المسرح برحبانيّة البداية و"كاروليّة" المتابعة المستقلّة.


أخبرتنا بأنها كانت قد هوت في اليوم الذي سبق الحفل، ولكنها أصرّت على الحضور، طبعاً فهذه كارول المنتصرة دائماً على جبروت الحسد وصعاب الرسالة الفنّية. كارول لم تنسَ "الصبوحة" فهي أكثر من إرتدى عباءتها في المسلسل، عرفت كيف تحييها وبأيّ أغنية، "تعلى وتتعمر يا دار" فالدار دارها لكارول، الدار التي جمعتها تحت سماءٍ واحدة بصانعة الماضي الجميل، بصباح، ملاك الفنّ الحارس للأرز وعنفوانه. ولهذه الدار تحيّة خاصة من كارول، أغنية لبيروت أسمعتها للماضي الحزين، الحاضر الخائف والمستقبل الواعد، فها هي اليوم تطيّبُ تاريخها الفنيّ بأغنيتيين وطنيتين.
ذكيّة كارول، ذكيّة بإختيارها للأغنية والتقنيات الصعبة من دون أن تُتعب المستمع، هذا هو "السهل الممتنع" لعبة كارول سماحة الممتهنة. فكان لصديق المهنة الفنان غسان صليبا، حضور لافت وتهنئة مهنيّة لزميلته على المسرح، في الوطن، وبين صانعي المكتبة الفنّية اللبنانية والعربيّة.


مع كارول سقطت كل تصنيفات الصفوف والمتصفصفين، بين الصف الأول و الثاني و العاشر. فهي صفٌ بحدّ ذاتها لا تقدّمها أرقام ولا تنالُ منها تحليلات إعلامية "ماكيافيليّة".
كارول غنّت في جبيل، بصوت مباشر من دون تسجيل و هنا يكمن الصراع بين الأذنين و أحاسيسك الباطنية، فمن روعة الصوت المباشر تظنّ لوهلة بأنه مسجّل ، ليردعك عقلك الواعي عن هذا الظن ويبرهن لك بأنها تُغني مباشرةً ومن دون الحاجة إلى ترجيف الصوت "Vibrato" كما تفعل الأخريات بهدف المبارزة الصوتية الوهمية.
شكراً لكِ يا كارول سماحة، لأنكِ صنعتِ لنا عصراً وسمحتِ لنا بأن نواجه كبار السن الذين يعيروننا بردائة العصر الذي نعيش فيه ويغيظوننا بماضيهم العريق، شكراً لكِ لأنكِ عراقةُ حاضرٍ مفعمٍ بإسمكِ ، شكراً لجبيل التي كانت على قدر فينيقيتها الفخورة ، من مينائكِ نطلق نداء إلى كل مهرجان يسعى إلى مستوى الدوليّة، بأن يتذكّر بأن للمسرح أميرة واحدة، لا بل ملكة واحدة، لا بل إمبرطورة واحدة وهي كارول سماحة.