يقول "بيرغسون" إن الذاكرة الميتة ، تنتعش بفضل محفّزات من أنواعٍ مختلفة ، وهذا ما حدث معي بالتحديد، فقد كانت ذاكرتي مطمورةً تحت أنقاض أوجاع الحياة ومُسكنات أفراحها، كانت ذاكرتي نائمة بفعل تعب الروح وثقل الضمير ، كانت في حالة غيبوبةٍ لبنانيةٍ تعيش على أنابيبِ المقاهي والملاهي وجرعات نفاق أنصاف الأصحاب وأشباه الأصدقاء.

لطالما كانت ذاكرتي عجوزاً بثياب صبية، سُندسية المظهر وهرمة المضمون ، حالي كحال جميع اللبنانيين، الذين يتركون مذكرات كل يوم إما على ورقٍ فانٍ أو على وسادةٍ حالمة في عالم الأوهام. وكغالبية اللبنانيين، أعيش فلسفة اليوم بيومه، متمسكةَ بعبارة "خبزنا كفاف يومنا"، لأن شمس الصباح بكل إشراقةٍ يومية ، تُحسب علينا نعمةً يجدر علينا تقديسها.

إلى اليوم الذي ظهر فيه هذا الحافز المذكور في دراسات بيرغسون، وهي رائحة نفايات أقوى من غيبوبة وأقسى من نقمة النوم المستدام ، رائحة نفايات نبشت مقبرة الذكريات وفتحت أبواب الذكرى. وعدت بالزمن إلى عصرٍ كان الإنسان فيه من صنع السماء ، كان للصلاة طعم الإبتسامة، وكان الموت محققاً بطبيعة الأحوال وليس بإستثناءات الغرابة. تذكرت جيداً خالتي ميّ، الأديبة والمؤرخة، العميقة الحكيمة، التي جعلتني أنظر إلى كنيتي في بطاقة الهويّة بفخر القربى وإعتزاز المعرفة. خالتي ميّ، تلك اللبنانية المصقولة من خشب الأرز وأحجار معبد جوبيتير، هي الأميرة التي تُشبهُ مخيلات أمين معلوف ومارون عبود، هي الثائرة على الآن و غداً، و العاشقة للأمس حتى آخر قطرة حنين. تذكرتها جيداً ، عندما شاهدت منظر أكوام النفايات تتربّص بأرصفتنا، بأوكسيجيننا، بأرواحنا المحتضرة.

أخبرتني ميّ، قصة الخوابي الكبيرة التي شهدت على أوّل أعاجيب المسيح المخلص في قانا ، والتي وجدت بعد سنين مطمورة تحت كومة من النفايات، وهذه الأخيرة حمتها من عيون السارقين والجهلة، كما أنها أبقت الدليل الوحيد على لبنانية قانا ولا على فلسطينيتها. هذه أيضاً كانت نفايات لبنانيّة، حمت ذكرى يسوع الحبيب ، أما نفايات اليوم يا خالتي ميّ فهي تُخبئ جيوباً أتخمتها الرشوة، تُخبئ كراسٍ سئمت من مستوطنيها، نفاياتٍ تخفي تحتها ليالي الملاجئ الكئيبة في زمن الحرب، ونهارات الظلم الطويلة في زمن السلم المؤقت.
تذكرتكِ يا خالتي ميّ، عندما أخبرتني عن ذاك اللبنان، لبنانكِ، مواسمَ عزٍّ على أدراج بعلبك، و على أوراق ميخائيل نعيمة وريشة جبران التي تنزف من ألوان السماء. تذكرتكِ، بلبنان العصيّ على أمبراطوريات بني عثمان ، لبنان المحروس من عين الأشقاء قبل الأعداء، لبنان الذي لم يحتلّه المصريون لأنهم إحترموا فينيقييه وكانوا تحت رحمة زوم حشب الأرز الذي يُستخدم كمادة أساسية للتحنيط .

ماذا أخبركِ عن لبنان؟ هل أكشف لكِ عن واقعٍ أثقل أنفاسنا وأوردتنا الدمويّة، هل أخبركِ كيف إستبدلنا ميرون قنوبين وبخور صنين بمزابل ومطامر ؟! هل أخبركِ يا خالتي بأن الكتاب أصبح أركيلة، ولغتنا الفرنسية لا نقرأها إلا على العطور والجزادين؟! هل أخبركِ عن مسارحنا التي يأكلها الصدأ والتي تعيش فراغاً موحشاً فيما تغصّ ملاهينا الليلية بأحفاد الفينيقيين؟!
هل تعرفين يا خالتي بأن مستشفياتنا باتت مقابر جماعية، وطرقاتنا درب آلام؟! هل تشاهدينا من فوق، وترين كيف أصبحت آثارنا تزيّن قصور حكّام أوروبا وكيف شُحنت كهدايا مقايضة بألقابٍ و مناصب؟! هل تعرّفتِ على مذاق أطعمتنا غير المطابقة للمواصفات؟! ملحنا ، جرحنا، مرّ مذاقنا ، حتى نومنا أصبح غير مطابق لأيّ مواصفاتٍ.
تذكرتكِ كثيراً يا خالتي، تذكرت لبنانكِ، الذي ندرتهِ في حبركِ، في دمعكِ، في رمق عينييكِ وفي كل نبضةٍ بين أضلعكِ. تذكرتكِ يا ميّ مرّ، أنتِ من عرف لبنان خزّان الحرية والإبداع، كما خزّان المياه الجوفية ، المحاصر بصحراء الرمال وأصوليات القحط، والمحسود من قبل آبار البترول و كوفيات الغدر. لبنانكِ، هو الرحبانيُ الحالم على رزمة أوراقٍ، لبنانكِ سيفٌ يلمعُ ببكويّة يوسف كرم . لبنانكِ حروف حريةٍ طُبعت في مار قزحيا في أوّل مطبعةِ إفتتحت البدء بالكلمة، والكلمة هو الله. لبنانكِ جرسٌ مربّعٌ في ساحة مار بطرس الفاتيكانيّة يزغرد لقديسين من هنا، من شرقِ المسيح ، لا يعرف مسيحاً دجالاً ابداً. لبنانكِ رأسٌ تلفهُ عمامة موسى الصدر يمشي في مسيرات المظلومين و يزرع لهم بذور المحبّة.

خالتي ميّ ، تختنقُ الكلمات في حنجرة القلم ، وترتجفُ الحروف من بردِ الظلم، أكتبُ وأخجل . لم يعد هذا الوطن يشبهني، لم تعد حيطانهُ حيطاناً ولا أناسهُ أناساً، أصبحت وحيدةً حتى في الجَمعات وضمن الحشود، لا أشعر بالأرض ، لا أشعر بالسماء .
وها أنا ذا على أبواب الشتاء، ومن المفترض أن أنتظر المطر بشوق الحنين ولهفة العاشق، لكنني أخاف الشتاء، لأن مطرنا سيصبح نقمة كوليرا وأوبئة ، ستُخزّن مياهنا الجوفيّة قذارة ساسيينا ، فالسلطان والباب العالي والحاكم بأمره، يظنون أنهم بمنأى عن الأمراض، وكأنهم يستحمون بمياهٍ نهر الدانوب.
خالتي ميّ ، لا أعرف ما الذي إستفزني، أهي النفايات الظاهرة أم تلك المكتومة بين النفوس وفوق الأرواح؟! أهو غضبٌ أم ألم، سئمٌ أم خوف ، يأسٌ أم ملل ؟ لا أعرف ما الذي أصابني، أم أنني بت فاقدة للأحاسيس من جراء تسمم الهواء والماء والنفوس والأرواح والذكريات والليل والنهار؟!
لا رئيس جمهوريّة منتخب، ولا وزراء ولا نواب ولا أمل أو رجاء. وحده الشعب يعيش من حلاوة الروح ومن قلة الموت السريع ، وحده الشعب يصارع جحيماً مزيناً بمقاهٍ ووسائل تواصل إجتماعي ، وحده الشعب يدمن على مسكنات الأعياد ومورفين البرامج التلفزيونيّة.
خالتي ميّ، أحسدكِ على نعمة البُعد ، فبيننا وبينكِ مسافاتٌ لا تجتازها روائح نفايات ولا تطالها أيادٍ وزارية ، هناك لا تعيشون تحت رحمة المصارف وحيتان المال، هناك لا رشوة، لا قتل، لا محسوبية ولا ظلم....
هناك يا خالتي، تعيشين ذاتكِ، تعيشين لبنان...وهنا نعيش ويموت لبنان ، ولكن رغم ذلك سأبقى عند وصيتك أحب هذا الوطن الغالي طالما أن لديك أصدقاء مثقفين يحاربون بالكلمة وليس بالسيف .