عندما تصل إلى فوق، تشعر على الفور بأن العالم قد تغيّر من حولك، في إهدن ، أصبح الصيف يختصر فصول الحياة كلها، أمسى خريفيّ المشاعر يرتسم بأصفر أوراق الحب، بات شتاءً بأبيض الروعة ودفء اللحن، والصيف في إهدن ربيعيّ الصبا، لا يتعب، لا يستكين من السهر على كتف قمرٍ أضاء أوراق الشاعر الإهدني جورج يمّين لسنين مضت.


يوم السبت الماضي، كان الموعد، ضُبطت الساعات، تجهّزت المسامعُ، فُرض الصمت في الخيال والعقول، لأن المنتظر هو "القيصر" وما لقيصر لا يُعطى إلا لقيصر ، له وحده يعطى السمعُ والبال، له وحده تُعطى المخيّلة ليرسم عليها لوحاتٍ بغداديّة .

يُشهد لمنظمي مهرجانات إهدنيات، المهنيّة العالية في التنظيم والتنفيذ، وذلك وليدة قيادةٍ للسيدة ريما فرنجيّة، التي حوّلت أخلاقيات وذكاء زوجها الوزير سليمان فرنجيّة، من القطاع السياسي إلى القطاع الفنّي، فنجحت كما فعل، وأصبحت زعيمة المهرجانات عن جدارةٍ وبإختيار الناس وليس بالتعيين والتنصيب.

عند المدخل، يستقبلك أحفاد البطريرك الدويهي ويوسف بك كرم بكل أدبٍ ورصانة ، يرشدونك نحو المداخل المؤديّة إلى المقعد حسب الأرقام، وهناك تصحو عيناك على إبتسامة فتيات زغرتا الجميلات، يضيّفن النبيذ والأطايب، لكننا لم نكن بحاجة الى النبيذ، إننا في إهدن، تاريخها دفء للضمير والوجدان.

في الصفوف الأماميّة تقف الأميرة الإهدنية تكلمّ الناس من حولها، فهي من هذا المجتمع، إنها فيرا يمّين، قلمٌ كحدّ السيف يكتب بأبجديّة القوة والحقيقة، عضو المكتب السياسي لتيّار المردة، نصّبها الناس حارسة لنضالهم، لحريتهم، لصوتهم وصمتهم. فيرا يمّين جزء من إهدنيات، فإهدن تشبهها، إرتفاعٌ على حدود السماء.


لم يعتلِ أيّ إعلاميٌ المسرح ليقدّم القيصر، فهو لا تحدّه مقدمات، ولا تختصرهُ مجاملاتٌ بلاستيكية، ولا يحتاج كغيره إلى إعلاميّة "بوتوكسيّة" أو إعلاميٌ جائعٌ للشهرة ولتاء التأنيث.
صعد على الفور، رحّب بالجماهير، بالآلاف الناكرين للكراسي، فهم وقوفاً يصفقون، يرقصون، يغازلون الليل الساهر على صوت كاظم الساهر. فرقته الموسيقيّة عراقيةّ واحدة في زمن العراقات الثلاث، مع نكهة لبنانيّة في الكورال ، وقف ببذّته السوداء الأنيقة الخالعة عنها خنقة ربطة العنق وتزلّف الكلمات. "قولي أحبك" "أحبيني بلا عقد" ، "إلا أنت"، "يا رايحين لبنان"، "يا مستبدة" وعلّق بعدها "عندما أطلقت أغنية "المستبدة" ظننت أن النساء ستكرهني ولكن تفاجأت بأنهن أحببن الأغنية أكثر من الرجال".

والأهم كان أداؤه المتميز قرب البيانو عندما غنى الأغنية الجديدة "لجسمك عطر خطير النوايا"، ألقى كلماتها قبل الغناء، وكأنه قدّمها بكلماتها مقبلات تفتح شهيّة المشاعر، ليعود ويشبعها بطبقٍ رئيسي، كلمات وألحاناً، لكن الناس لم تشعر بتخمة الفنّ الكاظمي، فلا شبعاً في جوع الحنين والحب، لا شبعاً من كاظم الساهر. لم تتعب الأيادي من التصفيق، لم تتعب القلوب من الخفق، لم يتعب المايكروفون من التجليّ، رقصنا لساعاتٍ ورقصت معنا تلك الأرزات المعلّقة على عنق الجبل الفخور، تماوج الآلاف على المدرجات، صرخوا يطالبون بالمزيد فالطمع بالحب مسموح، الطمع بالحنين منطقي، الطمعُ بالخيال واجبٌ.

تزّين المسرح بشاشاتٍ ضخمة في الوسط و على الأطراف، رصدت الكاميرات جميع المتواجدين ، ليشعر كل واحدٍ منهم بأنه يشارك القيصر هذا المسرح الصلب. تقنيات الصوت ممتازة، المؤثرات الضوئية ممتازة، الديكور ممتاز... كما إمتياز إهدن بأهلها وتاريخها العنيد. لكنّ هناك شيئاً ناقصا ، وكأن الإمتياز وقف على عتبة الدرجة الأولى ،وقف منتظراً كلمة مرورٍ عراقيّة ، فما كان على القيصر إلا وأن نطق بكمة السرّ: أغانٍ عراقيّة يتقنها الجمهور وكأنهم آتون من البصرة أو كركوك، وكأنهم مولودون في الموصل، ترعرعوا في الفلوجة، وسكنوا إربيل.


تواصل مع الناس وكلمهم مرات عديدة، توجّه بالنظر إلى كل زوايا المدرّج، فهو لا يميّز بين الأمامي والخلفي، هو من تخطى عقدة الصفوف و المراتب. كان الناس يترجون القمر بأن لا ينام، يعاندون الفجر و يتمسّكون بالدقائق والساعات، فالسهرة في إهدنيات لا تُشبه غيرها، للموقع الجغرافي أهميّة، فالمهرجانات تشبه بعضها، مدرجاتٌ و بطاقاتٌ و أغانٍ. لكن في إهدن، لا نجلس على المدرجات، بل نجلس في بيئةٍ حاضنةٍ للكرم و النخوة، في إهدن لا نحمل بطاقات الدخول إلى المسرح، بل نحمل بطاقاتِ إنتماءٍ لذاكرةٍ و ذكرى، في إهدن لا نستمع إلى الأغاني، بل نستمعُ إلى كلمات روحيةٍ ملحّنةٍ بنوتات المشاعر.
في إهدن غنّى القيصر ، وفي إهدن إستمعنا له نحن، والتاريخ الفنّي الذي يسجّل بضميرٍ ومهنيّة، يكتب عن إهدن أنها الأفضل بين المهرجانات، فالأفضل كانت....وتبقى.